ثورة الدجاج
غسان موسى الشريف
[1]
كانت الشمس قد شارفت على الغروب وهو يدخل ببطء وهدوء حاكاً أطراف قدميه على الأرض المفروشة بالرمل والخالية من الشوائب وقد لفت عينه في المكان بشموخ متفقداً من حوله. تابع تبختره وهو يفحص الصفين اللذين وقفا في إنتظاره حيث ست دجاجات اصطففن على اليمين, ويقابلهن الكتاكيت مرتبين حسن أعمارهن الأكبر فالأصغر على الشمال وهم ينظرون إلى الأرض في أدب واحترام. رفع الديك رأسه إلى اليسار فوجد الدجاجتين الباقيتين من زوجاته الثمانية تنامان على بيضهما في رف مخصص لهما مفروش بالقش في الحظيرة يقابله شباك صغير يدخل منه الهواء النقي. اطمئن الديك أن النظام قائم كما أراده في حظيرته, فتابع بخطوة سريعة وقفز في الهواء وهو يحرك جناحيه ليصل إلى جناحه في أعلى الحظيرة, ثم ما لبثت أن تبعته إحدى زوجاته في هدوء.
دخلت دودو إلى الجناح من فتحة صغيرة تمكن الديك من مراقبة كل صغيرة وكبيرة في حظيرته, ويقابلها شباك من جهة الشرق يطل على المزرعة الواسعة الأرجاء التي يحلوا له أن يتأملها مع إشراقة شمس كل يوم جديد.
- كيف حالك يا ديكي الجميل.
تبسم الديك في خيلاء وهو يهز جسده لينفض عنه الغبار القليل الذي علق به من جراء قفزه إلى جناحه وقال: ما هي الأخبار؟
شرعت دودو في نقل أخبار الحظيرة بالتفصيل للديك من مشاكسة الصيصان وأحاديث الدجاجات الجانبية وعدد البيض المتوقع فقسه عما قريب والبيض الذي أخذه صاحب المزرعة وتفاصيل أخرى كثيرة.
- وما هي أخبار صديقتك؟ ألم تأت بعد؟
- لا أدري متى ستأتي, ولكني أعتقد أنها ستزورنا في خلال هذين اليومين.
أخذ الديك مكانه في قلب جناحه على كومة القش الناعم ووضع رأسه بين جناحية لينعم بنوم هادئ طويل. ثم نزلت دودو من الجناح وذهبت إلى عشها لتنام, قبل أن تستيقظ باكراً على صياح الديك بصوته الجميل وقت الفجر.
سطعت شمس ذلك اليوم على الحظيرة ونزل الديك إلى ساحتها بعد أن تناول إفطاره الذي أتت به دودو, حفنة من الحبوب عكفت على إنتقائها مجموعة من زوجاته منذ البارحة, وكان في إنتظاره في ساحة الحظيرة دودو الثانية والثالثة وديدي وديدي الثانية والثالثة, ومجموعة فوق العشرة من الصيصان. أما دودو وديدي الرابعتان فكانا ما يزلن يعكفن على بيضهما على الرف, ولكنهما أشارتا إليه بالتحية من بعيد. خرج الديك من الحظيرة, وقفز فوق السور القريب من مزرعة الجيران, وكان في إنتظاره جاره الديك واقفاً أيضاً على سور مزرعته.
- صباح الخير أيها الديك.
- صباح الخير يا صديقي.
- شمس جميلة, أليس كذلك؟
- نعم, والهواء عليل أيضاً.
تابع الديكان حديثهما في أخبار الحظيرة والإهتمام بشؤون الدجاج والفراخ والجديد من أخبار المزارع المجاورة, وطال بينهما الكلام حتى إنتصفت الشمس في كبد السماء, فاستأذن كل منهما وانصرفا إلى حظيرتهما.
دخل الديك إلى حظيرته فوجد الدجاجات على غير إتساقهم المعهود وقد تجمعن في إحدى الزاويا, والصيصان مبعثرة في كل مكان تقريباً, وليس هناك أحد في إنتظاره كما أعتاد كل يوم عند دخوله وقت الظهر, فغضب لذلك غضباً شديداً ونعق بصوت حاد جعل كل من في الحظيرة يتجمد في مكانه, ثم جرى نحو زوجاته بسرعة وهو يهم بنقرهن عقاباً لهن, فصرخت الدجاجات وتفرقن عن أماكنهن ما عدا دجاجة بيضاء رشيقة ذات صدر عريض وقوام متسق, فارتاع عند رؤيتها وهدئ من مشيته وتظاهر وكأن شيئاً لم يكن, ثم تنحنح قبل أن يقول وهو ينظر إلى سطح الحظيرة, أهلاً وسهلاً بك. ثم إلتفت إليها وهو يتأملها بعد أن انشغلت زوجاته بترتيب الحظيرة ولملمة كتاكيتهن من ساحتها, من أنت بحق السماء؟
ردت كيكي بصوت يعلوه الغنج والدلع وهي تهز رأسها: أنا كيكي أيها الملك.
علت بشائر الراحة على وجه الديك, وبدأ يرقص حول كيكي وهو يدور بشكل دائري حولها وفرد جناحيه وهزهما وهو يشير بهما إليها, ثم سألها: ما رأيك يا كيكي أن تكوني رقم تسعة؟
ردت كيكي وقد أخذتها الحماسة: ليس لدي من مانع يا ديكي الجميل!
[2]
مرت أيام هادئة وجميلة في الحظيرة منذ زواج الديك بكيكي, فلقد أمنت الدجاجات والفراخ من صياحه وإثارته للمشاكل على أتفه الأسباب وعند أقل تقصير. ولكن إنشغال الديك بزوجته الجديدة وعدم خروجه من الجناح كعادته كل صباح قد أثار إستغراب الدجاجات وغيرتهن أيضاً, فهن لم يتلقين مثل هذه المعاملة عند زواجهن. ولهذا فقد بدأ الهمس يدب في الحظيرة والكلام يزداد بعد أن مر اليوم الثالث ولم ينزل الديك من جناحه بعد! وفي صباح اليوم الرابع قفز الديك بعنفوان وقوة إلى ساحة الحظيرة وهو يتبختر ويهز جناحه الأخضر في سرور صائحاً في الدجاجات: لقد كنت أراقبكن أيتها الدجاجات.. أعتقد أنكن أخذتن أجازة طويلة.. والآن أريد كل شئ أن يعود كما كان, نفس النظام والترتيب والإحترام, كل شئ كسابق عهده, وهذا الكلام يمشي على الجميع, ثم نظر إلى الجناح وهو يرفع صوته عالياً, وتابع مشيته إلى المزرعة التي إشتاق إليها وإلى صديقه الديك كثيراً.
- أهلاً بالعروس
- أهلاً بصديقي الديك.
- فرحت لفرحك كثيراً
- شكراً يا صديقي.. أه ما احلى الدجاج وأجمله, ليس هناك في الدنيا ألذ منه سوى إشراقة شمس يوم جديد في صيف يوم حار.
- طبعاً أتفق معك, ولكن إحذر هؤلاء الدجاجات, فهن عند كثرتهن يتفقن علينا.
- أوه.. مستحيل, لا أعتقد ذلك أبداً, فالدجاجات متفرقات ولا يجمعهن شئ, ألا تراهن يتصارعن دائماً كلما جائتهن دجاجة جديدة, وأغلب ظني أنهن يتصارعن الآن مع كيكي الجميلة والفتية. لا تنسى يا صديقي أنني أحرص أن أتزوج كل مرة دجاجة أجمل من سابقتها, كي أجج نار الغيرة بين الدجاجات فلا يعدن يتفقن على, وإنما يسارعن لمرضاتي.
- أتعلم أني أفكر دائماً ماذا سيصنع الدجاج بدوننا! سيكونون بلا شك مشردين وبلا مأوى, ولن يجدوا من يحضر لهن الطعام.
- أه يا صديقي..لو أن الدجاجات والصيصان يعرفون فضلنا عليهم, لألبسونا ثياب الرعاية ما تبقى من عمرنا المديد. تخيل أن دودو تطلب مني أن أكون أكثر إختلاطاً بالفراخ والدجاجات وأن أسمع شكواهم وطلباتهم.
- مجنونة.
- نعم, مجنونة. ولو أننا سمعنا كلام الدجاج في كل ما يردن, لغدت حظائرنا أعشاشاً.
- نعم.. لولا الحزم والشدة يا صديقي, لما تمكنت حظائرنا أن تنتج البيض الوفير, ولبدلنا صاحب المزرعة سريعاً بديك حازم لا يعرف الرحمة.
- إنتاج وفير وحياة هادئة وزوجات كثر وصاحب مزرعة يعطينا ما نريد, هل في الدنيا أجمل من ذلك! ثم صاح الديك من بعيد يخاطب صاحب المزرعة الذي كان يحرث حقله فوق الجرار, أدام الله ملكك يا سيدي وجعلك فوق رأسنا دوماً.
انتبه صاحب المزرعة إلى صياح الديك, فالتفت صوب الديكين وعلى وجهه إبتسامة الرضا. تنحنح الديك ونفش ريشه قليلاً وهو يرفع رأسه في إعتزاز وقال: أوه ما أحلى هذ الإبتسامة, إنها تشعرني أنني ملك, ملك لا يقهر.
رجع الديك مبكراً وقد سرح خياله في كيكي وهو يمشى صوب الحظيرة, ثم مالبث أن وجد نفسه في وسط ساحتها وهو لا يشعر, فتلفت ليتفقد الدجاجات, فلم يجد بينهن دودو وكيكي. تلفت الديك على يمينه وشماله ليبحث عنهما, فلم يجدهما في الحظيرة. صاح الديك بقوة في دجاجاته قائلاً: أين دودو وكيكي؟ لم يرد أحد من الدجاجات, وإنما اكتفين بالنقنقة المبهومة والهمهمة. فنفش الديك ريشه الأسود ورفع عرفه الأحمر عالياً وقد بدا على عينيه الشر ثم قال بهدوء: أنا لن أعيد سؤالي مرة أخرى أيتها الدجاجات, أين دودو وكيكي؟ تقدمت إحدى الدجاجات في خوف وقلق وهي تقول: لقد خرجتا بعد أن خرجت في الصباح ولم يعودا حتى الساعة أيها الديك. رد الديك في إستغراب: خرجتا.. ولم يخبراني.. ثم صاح قائلاً: أهذا معقول أيتها الدجاجات اللعينة!. ثم كال لهن الشتائم المقذعة وبدأ يجرى ورائهن وينقرهن بلا رحمة وهن يقفزن ويطرن داخل الحظيرة, حتى ثار الغبار في كل مكان فيها وبدأ يخرج من نوافذها.
كانت المشاكسات بين كيكي والدجاجات قد بدأت بعد أن نزلت كيكي من الجناح صباح ذلك اليوم, فأحبت كيكي أن تخرج من جو الحظيرة الخانق وتذهب في نزهة مع دودو, فهما لم يريا بعضعهما البعض منذ مدة طويلة, منذ أن بيعت دودو وهي كتكوت صغير وخرجت من المزرعة التي تربيا فيها سوياً.
- يالله كم كان رحيماً وطيباً ورقيقاً أبي يا دودو, لقد كان يعاملنا جميعاً بالعدل ويعطينا من الحرية ما يكفي أن نتعرف على الحياة. أخبريني عن الديك يا دودو, كيف هو؟
- الديك لا يشبه أباك أبدأ يا كيكي, فلا أحد يجرأ قط على مناقشته, فهو صارم عنيد, ولا يؤمن جانبه. وكلنا نتذكر قصة دودو, زوجته الأولى, التي ماتت كمداً بعد أن أبعد الديك صوصها الصغير عنها, لأنها كانت كثيرة النقاش والجدال لقرارته وكانت تطالبه بالحرية في الخروج من الحظيرة وإختيار العش الذي تريده لحضانة البيض.
- ماذا, أهذا معقول؟
تابعت دودو بعصبية: نعم, فقد كانت دودو ذكية ونشيطة, وكان الديك يكل إليها العمل كله, ولم يكن ليتمكن أن يتنازل عنها, حتى أتيت أنا وأغراني بالكلام المعسول أن أحل محلها, فاقتنعت بعد أن أوهمني أنها مريضة, وأصبحت أنا دودو المشرفة على الحظيرة بدلاً منها, ثم حدث ما أخبرتك به. هيا بنا نسرع الآن يا كيكي, فإن وصل الديك قبلنا إلى الحظيرة فسيكون عقابنا أليماً.
كان الديك قد صعد إلى جناحه وقد بدا عليه التوتر والتوجس, ووقف أمام شباكه ينظر إلى المزرعة من بعيد منتظراً قدوم زوجتيه, فمكث برهة ثم بدا له خيال من بعيد, فقفز من مكانه ووقف على برواز الشباك, ولكنه لم يتمكن من الرؤية بوضوح, فطار إلى سطح الحظيرة وارتفع إلى أعلى نقطة فيه, فرأى دودو وكيكي وهما يضحكان ويمشيان من بعيد. نزل الديك إلى المزرعة ثم وقف أمام باب الحظيرة وهو ينتظر مجيئهن, فما إن وقعت عينيه عليهن حتى جرى إليهن, فهربت دودو من أمامه ولكن كيكي لم تتحرك, فوجد الديك نفسه أمامها, فتجاهلها وتابع جريه وراء دودو ليضربها, فنهرته كيكي بحزم: لا تضربها, هي لم يكن لها ذنب في ذلك, أنا التي دعوتها لزيارة مزرعتي القديمة, لم يكن أبي ليعاقب أمى على شئ مثل هذا, وإنما كان.. قاطع الديك حديث كيكي وهو يهدئ من جريه ولا يكاد يصدق أذنيه ثم قال: واضح أنك لم تعرفي قواعد هذه الحظيرة بعد أيتها الدجاجة. ثم نظر إلى دودو بنصف عين وصاح بصوت حازم: شفعت لك كيكي اليوم. ادخلي إلى الحظيرة الآن, ثم أخذ كيكي في دورة حول المزرعة قبل أن يدخل وهو غاضب محبط, وصعد إلى جناحه بسرعة, ثم تبعته دودو.
أحاطت الدجاجات بكيكي وهن ينقنقن بعد أن دخلت إلى الحظيرة وقلن: واضح أنه لم يضربك!
- نعم لم يضربني! ولكننا كلنا سنضرب جميعنا إن لم أفعل ما طلبه مني أيتها الغبيات.
رفعت دودو الثالثة جناحيها وهي تكاد تجن قائلة: إخفضي صوتك أرجوك, لا يسمعك الديك.
أخذت الدجاجات يقرقن واتجهوا إلى ركن الحظيرة البعيد وهن يأكلن من الأرض وتابعت كيكي كلامها: هذا الديك لا يهتم بأحد إلا نفسه.. لقد أراد أن يزرع بيننا الفتنة بأن أحل محل دودو في إدارة الحظيرة. وأنتن لا يشغل بالكم إلا الطعام والجدال والخصام. لابد أن تشعروا بالخجل من أنفسكن أن تكن بهذا الغباء.
بهتت الدجاجات من حديث كيكي بينما قالت ديدي الثالثة: أوه حرام.. دودو نذرت نفسها لهذا الديك الأناني, غير معقول أن تحلي محلها وأنت لم تأت إلا اليوم!
- أنا لا أريد شيئاً لنفسي أيتها الدجاجات, فدودو صديقتي كما هي صديقتكم, وإن أخذت مكانها اليوم فسيأتي من يأخذ مكاني غداً. لابد لنا أن نعمل سوياً لنغيير من حياتنا وحياة أبنائنا أيتها الدجاجات.. أه لو كنتم عشتم الحياة التي عشتها في مزرعة أبي..
أنصت الدجاجات لكيكي وهي تقول: في المزرعة التي أتيت منها في القرية المجاورة كانت حياتي رائعة, فأبي رجل طيب وكان يعطينا الحرية في أن نبدل بين البيض وأن تختار زوجاته الأعشاش التي تريد أن تنام عليها وأن نخرج من الحظيرة إلى المزرعة المجاورة.. لقد كانت أياماً جميلة وكان إنتاجنا مزدهراً.
قالت دودو الثانية: مستحيل, كيف يكون الإنتاج مزدهراً وأنتن تخرجن وتخترن البيض الذي تنمن عليه, هذا مستحيل!
- كان إنتاجنا كثيراً وبيضنا فاخراً, فحريتنا أعطتنا الأمان وأشعرتنا بالإستقرار وأحب كل منا الآخر فأصبحنا نعمل سوياً لزيادة إنتاجنا.
نظر الديك من فوق وصاح: أيتها الدجاجات, كفوا عن قرقرتكن وانشغلن بما يفيد, أريد أن أرتاح قليلاً.
انصرفت كل الدجاجات إلى أعشاشهن ونزلت بعد الغروب دودو من الجناح بعد أن نام الديك, وأخذت مكانها بجانب كيكي, ثم سألتها في هدوء: ماذا أراد منك الديك اليوم؟
- كان يريدني أن أحل محلك!
سرحت دودو قليلاً, ومن ثم تابعت كيكي: لا تقلقي يا دودو, فأنا لن أفعل ذلك مطلقاً, ولن أبيع صداقتنا بأي ثمن.
- ولكنك تعرفين ماذا يعني هذا الكلام يا كيكي, الديك لا يرحم من لا يتعاون معه, وهو لم يعطيك هذا العرض إلا بعد أن تأكد من قوة شخصيتك فأراد أن يجعلها في خدمته, ويبدوا أنني لم أعد مهمة في هذا المكان بعد أن بعت نفسي له.
- لا يا دودو, أنت أهم من في هذا المكان, لا تقلقي, نحن سنقوم بثورة.
ردت دودو في سذاجة: ماذا؟.. أتسمون زوجة الثور في مزرعتكم ثورة! لماذا تريدين أن تجلبي إلى حظيرتنا بقرة يا كيكي؟
كتمت كيكي ضحكتها وهي تقول: لا أيتها الدجاجة, إن الثورة تعني أن نفعل شيئاً لكي نحصل على حريتنا.
- اسمعي يا كيكي, أنا خائفة عليك, أرجوك اقبلي بما عرضه عليه ولا تعرضى نفسك وتعرضينا للمتاعب. تستطيعين أن تقبلي بهذا العرض ومن ثم تعملي على مصلحة الدجاجات والكتاكيت, أعتقد ان هذا أفضل يا كيكي, فزوجة الثور هذه غير مضمونة العواقب.
- وما يدريك هل سأبقى على ولائي لكم بعد ذلك, أم هل سأقوى على فعل الخير! كيف تطلبي مني أن أفعل شيئاً لم تتمكني أنت من فعله.
- ولكنك يا كيكي أقوى مني..
قطعت كيكي كلام دودو وقالت في هدؤء: لابد لنا أن لا نمكنه من أن يلعب بنا هذه الألاعيب, فقد جاء اليوم الذي تفيق فيه الدجاجات من سباتهن, وأن نلقن الديك درساً لا ينساه.
هزت دودو رأسها في إستسلام وهي تقول: على أي حال يا كيكي أنا أثق فيك وأحبك, وسأفعل كل ما تطلبيه مني.
- كل ما أريده منك هو أن تقنعي الدجاج بالثورة.. أقصد زوجة الثور, واتركي الباقي على.
ضحكت الدجاجتان وانصرفتا إلى أعشاشهما, بينما الديك كان يغط في نوم عميق.
[3]
جاء الصباح وخرج الديك كعادته ليقف على السور مع جاره الذي بادره بالسؤال: لم يعجبني صياحك اليوم يا صديقي, وأراك مهموماً على غير عادتك, ماذا بك؟
- آوه يا جاري العزيز.. عندي مصيبة.. كيكي لم ترض بالتعاون معي, أنا أشعر أنني بدأت أفقد السيطرة على الحظيرة ولهذا فأنا في أشد حالات الإحباط, أخبرني ماذا أفعل؟
تبسم الديك في هدوء وهو يقول: هذه سهلة, إفعل كما فعل جدي عندما عصت واحدة من دجاجاته أوامره, لقد أبعدها عن الحظيرة, فأكلها الثعلب.
- لا, لا أستطيع.. إن كيكي أحلى زوجاتي, ثم إنها ذكية وقوية!
- طيب.. دعني أفكر.. أه وجدتها, لماذا لا تفعل مثل ما فعل جد جدي؟
- أخبرني ماذا فعل!. أرجوك
أخذ الديك يتحدث في نشوة عامرة ويحرك ذيله في كبرياء وهو يحدث الديك عن حكاية جده. ثم لما جاء وقت الظهر, وقفا تحت ظل شجرة ليشرعا في التخطيط, وظلا على حالهما ذلك إلى أن أعدا خطة متكاملة يضرب فيها الديك بيد من حديد كلاً من كيكي ودود لتشرق شمس السلام على الحظيرة من جديد.
رجع الديك إلى حظيرته وقت الغروب وهو عازم على تنفيذ الخطة وبدون تأخير, ولكنه رأى الحظيرة من بعيد مؤصدة والشبابيك مغلقة والهدوء المريب يخيم المكان. وصل الديك إلى باب الحظيرة فصاح بصوت عال,ولكن أحداً لم يجبه, فوضع إذنه على الحائط لعله يسمع أحداً, ولكن المكان كان يلفه الصمت. دار حول حظيرته ووصل إلى جهة شباك جناحه العال, فوجده مفتوحاً ويقف عليه ديك قوي فتي, فقد الديك صوابه وصاح على الديك الفتي وهو يقفز عالياً في مكانه.
- من أنت.. من سمح لك أنت تقف في مكاني وأن تتعدى على أملاكي. إفتح الباب.
نظر الديك إليه في تكبر وصاح: أنا لم أتعد علي أملاكك أيها الدجاجة, إنما أتيت لزيارة كيكي من المزرعة المجاورة فوجدت زوجاتك يردن زوجاً عادلاً يعطيهن الحرية التي سلبتها منهن, فوافقت على عرضهن, وها انا الآن أملك هذه الحظيرة بدلاً منك.
- زوجاً لهن, أجننت أيها الديك, هؤلاء زوجاتي وهذه حظيرتي, ولا يحق لأحد أن يأخذ ما كتبه الخالق لي!
- ما كتبه الخالق لك شرطه بالعدل, وأنت ظلمت وتجبرت كثيراً, فكرهوك, ولم يعدن يطقن الحياة معك, والخالق أورثني هذه الحظيرة من بعدك, فاذهب من هنا.. ولا أريد أن أراك في هذه المزرعة بعد اليوم.
- ماذا أيها الأخرق.. أين دودو, أين زوجتى دودو.. ماذا فعلت بها أيها الوغد؟
- دودو.. لاشئ.. هي وكيكي كانتا أول من عرض على هذه الفكرة أيها الخاسر, ووافقت زوجاتك كلهن على ذلك.
بهت الديك ولم يكد يصدق فصاح بصوت مبحوح: دودو زوجتك, أوافقت دودو أن تتزوجك؟ دودو أرجوك تحدثي إلي يا حبيبتي!
أطلت دودو برأسها من الشباك بجانب الديك وهي تنظر إليه في حزن وهي تنقنق: لم يكن لدي خيار آخر أيها الديك, لقد كنت أعلم أنك ستنتقم منا جميعاً إن لم تخضع لك كيكي.. لم تجعل لنا خياراً آخر.
صاح الديك في ألم: وأولادي وحظيرتي ودجاجاتي!.. ماذا ستقول عني الديوك بعد اليوم, كيف سأعيش بين الدواجن بعد الآن.. إستدرك الديك هيجانه ثم قال في حزم: لا.. لن يكون هذا.. أيها الديك, إنزل إلي ونازعني على ملكي بشرف ولا تختبئ وراء الدجاجات كالفراخ.
نظر الديك القوي إليه في شفقة وهو يصيح: تعيش بلا حظيرة ولا دجاج خير لك أن تحرم من الحياة, إذهب من هنا ولا تصيح بعد الآن, فليس هنا من أحد يريدك.
أزعج صراخ الديكين صاحب المزرعة ففتح شباكه لينظر ماذا يحدث, فنظر إليه الديك في إستجداء لعله يساعده, ولكن الرجل مالبث أن أغلق الشباك بغير اكتراث. أصاب الديك الإحباط, وتراجع إلى الوراء وهو يرتجف من البرد والخوف, ودخل الديك الفتي ودودو إلى الجناح وأغلقا من ورائهما الشباك. نظر الديك إلى الحظيرة والمزرعة وهو حزين, ثم خرج منها وهو يجر أذيال الخيبة والذل هائم على وجهه إلى أن ساقته قدماه إلى القرية, فاختبئ في شجرة داخل أحد البيوت ليحتمي من البرد ولم يسمع له صياح بعد ذلك.
وذات يوم والديك يقف على سور البيت قبل الفجر, رأى من بعيد ديكاً يمشى وحده, تأمل الديك الخيال وهو يقترب منه, فصعقته الدهشة, إنه جاره الديك يمشي وقد تنتف ريشه, فصاح عليه, فانتبه إليه وحاد عن مشيته إليه, فما أن وصل عنده حتى صاح فيه: أيها الغبي, انظر ماذا فعلت بنا!
- بدلاً من أن تسأل عن حالي, تعتابني؟ تباً لصداقتك الزائفة.
- أنت خربت حظيرتي وجرأت دجاجي علي, فبعد أن طردت من حظيرتك, لم تعد الدجاجات تطيعني ولم أتمكن من ضبط النظام, ولقد حاولت بشتي الطرق ولكن لم يجد ذلك نفعاً, وها أنا الآن مشرد طريد.. مثلك أيها الغبي.
نظر إليه الديك في مكر وصاح مستهزئاُ: ألم تطبق عليهم خطة جدك الخامس عشر!
إلتفت إليه الديك في غضب وقال: أتهزأ بي أيها الديك!
رد الديك في غضب: أفكارك الغيبة هي التي جرتني إلى ما أنا فيه الآن.. ليتني سمعت كلام دودو بدلاً من كلام الأموات من عائلتك.
نعق فيه الديك وقال: لا تذكر أبائي بسوء أيها المجنون..إشتعل القتال بين الديكين وأيقظ شجارهما صاحب البيت فصاح فيهما وطردهما من بيته. وعندها طار الديكان وسارا سوياً في طريق مجهول وابتعدا عن القرية إلى الأبد ولم يعد يسمع عنهما أحد بعد ذلك.