القنفذ
محمد الفشتالي
انطوى وتكوم وصار كرة أشواك، تكور وتمرغ في التراب، ثم دخل بيته الخلفي الذي لا يطلع على عجيب سره أحد، ولو من بني جنسه. يحكى أنه ينحدر من فصيلة نادرة، ربما تكون قد انقرضت. لذلك تؤرقه أمور السلالة عندما تظهر بعض القنافذ في المدينة، ثم لا تلبث أن تختفي، وقد تموت، أو تقتل وهي يافعة، وتتركه بدون نصير. فليس هناك من عون غير ما خبرته طبيعة هذا النوع النادر جدا. أف ... تململ وارتخى داخل جلدته، مدد رجلين منتفختين ويدين طويلتين، ونتأ وجهه بين الأشواك منهكا، وفتح عينين لولبيتين حادتين بجفون متغضنة وسميكة؛ وهو يخطط لأمر هام عليه أن يقضيه قريبا. لا يهم فالبقاء للأقوى في كل الأحوال، هذا قانون كان ولا يزال، قال بصوت خفيض، سأكون من هذه الأوراق ملفا كاملا من ألفه ليائه بخطوطه وانعراجاته وبأشواكه طبعا، وأقدم لهم المشروع جاهزا، وأنتزع موافقتهم، وينطلق عمل جديد، ويستمر القنفذ مخنثا كما كان … استسلم لإغفاءة تقبض معها، وتجمع من جديد كومة من مثاقب حادة، تعلو وتنخفض حسب زفرات شخير رقيق. رن المنبه، استفاق القنفذ، أظهر رأسه بالحذر الذي لا يفارقه، أطال قامته، حك بطنه، وتمرغ قليلا كالعادة. قام يستحم يعيد بعض الهدوء لأعصابه المتوترة من التقبض. أفطر بسرعة، أغلق الباب، أدار المفتاح دورتين، أعاد الكرة استجابة لوسواسه التسلطي. الحذر الحذر، وانطلق إلى الموعد المضروب. ابتسموا له يخفون انزعاجهم. جلس إلى طاولة مستديرة يستمع للخطب بإمعان، يهز رأسه تفهما، مسترقا النظر إلى وجوه متهيجة دون أن ينشغل بصهيلها أو نباحها. فالقنفذ لا يبالي بالنباح ، ولا يهاب الثعابين حتى . عيناه لا تفارقان كبيرهم، وأصابعه تخلل غابة الشعر على صدغيه دون توقف. قسماته تفرج بين الحين والآخر عن ابتسامة حذقة وصغيرة؛ تعاظمت لتظهر أسنانه حادة ومصفرة حين تسلم الكلمة من الرجل الكبير. استوى القنفذ من جديد في جلسته، بدا أكثرهم وداعة، مسحهم بنظرة لطيفة، تنحنح، جلل رئيس الجلسة بما فيه الكفاية، وضع الملف على الطاولة، فتحه برفق، وأخذ يخرج أوراقه واحدة واحدة وفق ترتيب معين، ويقوم بتشريح مفصل لمعطياتها وتدقيقاتها، ويداه تنسجان فسيفساء من حركة لا منتهية؛ ترصدها العيون، وتتلقف المزيد من زخرفها الهوائي بإعجاب. وجوه قليلة فقط تستغرب .... كيف أمكن لهذا القنفذ أن يلم بطريقة التوائية كهاته إحكاما للسيطرة على القلوب من حوله ؟. أنهى كلامه، وأثنى على رئيسهم وعلى حسن إنصاتهم ، فتدفقت التصفيقات، وهو يضع كفه الأيمن على صفحة صدره مصاحبا بانحناءات ثلاث . قاموا جميعا وحيوه . وضع كبيرهم غلافا أبيض وملفا منتفخا بين يديه، وتقابلا متعانقين . انسحب الكل ، وبقي القنفذ يسترد أنفاسه ... أخفى الغلاف في جيب داخلي لمعطفه ، رتب أوراقه، وخرج منتفخا من القاعة؛ تلفه بهجة عارمة. الحذر الحذر ، ثم الحذر لكل الاحتمالات … ولم هذه الأشواك ؟. تنهد : ليست هذه هي المرة الأولى … لا عليك. امتطى مركبة شخص كان يكفيه فخرا أن يرافق القنفذ أينما حل وارتحل . وما المانع ؟. إنه يعرف كيف يتخلص من كل مريديه واحدا واحدا كلما تأتت فرصة لازمة ! . عند مدخل النزل ذي خمسة نجوم ودع السائق، ودخل . هاهو القنفذ على كرسي طويل يترنح تحت زخات ضوء باهر متلاعب، والكأس بثليجاتها أمامه . وزع كؤوسا عديدة بدون حساب على المعارف ، وعلى رجال صلع يضربون على يديه تأييدا … اتفقوا معه على ما أرادوا مقابل وعود لبعض مطالبه. فارقهم عندما تيقن أنه أثملهم جميعا ، وخرج رافعا هامته يدندن … كيف تفعل بهم هذا وتدندن ؟ ... وما الجديد في ذلك ؟ . قادته قدماه إلى بيت أحد المريدين المتنافسين على خدمته . حدد له مهمة استعجالية ، وغاب في الدرب، ولا يشك قطعا في أن أي واحد منهم، ولو أيفعهم يمكن وفي أية لحظة أن يدبر مؤامرة ما . قهقه ... وما قيمة هذه الأشواك إن لم تنخر عظامهم ؟ .
تمت المهمة: في الموعد المحدد كانوا ينتظرونه. دخل فجأة عليهم، قاموا من أماكنهم، فقابل ذلك بالتمرغ لربع ساعة على الأقل في التراب . تنبهوا، فأزالوا بذلهم، ولبسوا سراويل فضفاضة، واقتعدوا الأرض. حين أفرغ من التمرغ، تبعوه للقاعة. هناك تحولوا كراكيز طيعة. أخذ كركوزا، وعلق على جبينه طابعا بريديا تاريخيا. ألصق آخر بحزام على صليب خشبي. نادى الثالث، وأوقفه على اليمين ممددا يديه للأعلى بعد أن قرفصه. أغلق عيني الرابع بخرقة، وعلقه من بطنه على سلم. فتح فم الخامس، وأشرعه بقبضته. ألوى رقبة السادس. وأدخل السابع في نعش ضيق . بدت أجسامهم جامدة على حالة واحدة كالموتى . مضت فترة صمت رهيبة، ثم صفق، فراحوا يتمايلون كالثمالى يغالبون السقوط. . صفق ثانية، شرعوا في لطم الخدود وقد خيم عليهم جو جنائزي، ودلقت الأفواه تتناحب وتتناعى. صفق ثالثة، وانقلبوا يغنون جماعيا، بعضهم يقرع الدفوف، والبعض الآخر يضرب الصنوج. أومأ إليهم، عادوا لحالتهم الأولى ساكنين في راحة الأموات. خفتت الأضواء، غابوا جميعا، وبقي كركوز أبكم ينتقل على مهل؛ يقدم من إطار كرتوني كالشاشة نشرة أخبار خرساء عن العالم، والدمار الذي أصاب الإنسانية هنا وهناك. وفجأة انبثقوا تباعا يتعاركون هذه المرة؛ الكل عدو الكل. وبينهم كركوزة بهية بخمار أبيض تستنجد، فانغرس القنفذ وسطهم؛ وأشواكه في حالة استنفار. رفع ناظره للسماء ابتهالا. ابتسمت له، احتضنها، سارا على جسر من كراكيز تنشد عن السحاب والمطر. ثم دوى رعد، وقصف برق، وغاب القنفذ وكركوزته. بقيت معظم الكراكيز تبحث، وأخرى تندب حظها. أظلمت القاعة، أنيرت من جديد، فبحثوا عنه بين الكراسي الفارغة. صمت آذانهم بصدى قعقعات متوالية. جلسوا يستردون أنفاسهم. قال كركوز رمادي : ربما ذهب لموعد ما، أو قصد شأنا آخر.
القنفذ يعرف كيف يقتنص طرائده. قبل أن يخلوا مكانهم؛ كان إلى جانب طريدة جديدة؛ يأتدم ب (خليعه) المفضل. وأمامه تنتصب خابية نبيذ معتق؛ يغترف منها ما طاب من الأوقات، بينما تعالى صوت شيخ الملحون المحبوب صادحا في أرجاء الغرفة. طفق القنفذ يرتجل زجلا – إنه قنفذ زجال، هذا أكيد – تصطفق له جناحا الطريدة ولها، ثم ينقلب مغنيا ملفوظاته، فترقص وترقص، والريش ينتثر كندف الثلج. احمرت عينا القنفذ. ارتمى عليها ينهشها حتى تخم. استلقى على قفاه لحظة، قام بعدها، فتح كوة، وطوح بالريش وما تبقى من الطريدة. كان الكركوز اليافع مستميتا في الانتظار بالخارج، فقد اعتاد أن يحيا على فتات القنفذ؛ رغم أنه يمقته ويغتابه، وسيبقى يمقته ويلعنه، ويتمسح به أيضا، ويستقبل فتات موائده، وقد يذبحه يوما. لكن ما يريده بالضبط هو أن يتقنفذ عليه، إن أمكن دون أن يتخلى عن مقته ولعنه. سار في طريق مظلم؛ يتناهى لسمعه شخير رقيق . تلمس جسده. لم يكن قد تقبض بعد .