معراج العُمَري
جمال المعاند -إسبانيا
- في كل ليلة يضبط منبه هاتفه المحمول، ويلتفت ذات اليمين وذات الشمال، كأنه يخاطب حفظته الكرام الكاتبين بلسان الحال، هأنذا أبيّتُ النية للتهجد، بل أتجاوز مرحلة القصد إلى العزم ، ثم يستلقي على فراشه فيبدأ بورد المحاسبة، فورد النوم .
أما تلك الليلة فلهج لسانه بالحمد أكثر من الاستغفار وهو يقوم بمحاسبة نفسه، لأنه أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام لكل فرائض ذلك اليوم، بعد محاولات تدرجت بين الحفاظ على صلاة العشاء جماعة، فالعصر، وما بذل سابقاً من الجهد للمحافظة على الفجر .
أخذ بقراءة أوراد الليلة، وما كاد يبدأ حتى أطبق النوم على جفونه فأغلقها، فكانت وكاءَ السَه على شفتيه، فلا يدري هل أتم أوراده أم لا ؟ .
فلم يتذكر إلا استيقاظه على صوت المنبه، فرحاً يمد كلتا يديه، وقال: خيراً اللهم اجعله خيراً، ثم تمتمَ بورد الاستيقاظ، ونظر إلى الساعة للتأكد من الوقت، فحمد الله الذي أذنَ لقلبه أن يتلقى فيوض النور من السماء الدنيا التي تبث إرسالها لقلوب المؤمنين سحراً، تهجدَ ما قسم الله له، وما أن فرغ من حزبه القرآني، حتى تناهى لسمعه صوت المؤذن ينادي لصلاة الفجر، فذهب إلى مسجد الحارة .
ومن عادته بعد الصلاة أن يلفي والدته، قد أعدت له القهوة فيجلس معها مستمتعاً بحديثها الشيق، تبدأ عادة بسؤالها التقليدي :
متى تريحني من الاهتمام بشؤونك يابني، لقد كبرتُ في السن ؟.
ولقد رأيت لإخوتك وأخواتك ذرية إلا أنت .
وفي كل مرة يتهرب من سؤالها بتسويف هو نفسه لم يكن مقتنعاً به، بيد أنه هذا اليوم نظر إلى وجه أمه، وابتسم وأطرق ملياً، حتى ظنت أنه لم يسمع سؤالها، أو أنه تبرم من تكرار هذا السؤال، فبادرته بحلف أيمان مغلظة أنها ستعيد عليه فتح الموضوع كل يوم، حتى يهديه المولى ويتخطى هذه العقبة النفسية .
فوجئت بجوابه: أحِسُ أنه قريب .
طمعت أمه بهذا التساهل و اللين اللذان جدا عليه اليوم، فقالت: حدد لي زمناً .
قال: لعله أياماً، أخذ رشفة من فنجان القهوة، وسرح ببصره .
لكن أمه عاجلته بقولها: شهر يكفي؟ .
هز رأسه وهو يضحك، بينما قامت هي للهاتف لتخبر بقية أولادها، أن أخاهم وعد بالزواج خلال شهر، وهي لم تجرب عليه الكذب أبداً، وهي تدعوالله، وتطلب ممن تتصل بهم الدعاء .
أما هو فقد بنى وعده لأمه على مارأى قبل أن يستيقظ، وقد كان رأى فتاة بارعة الجمال، بالقرب من المسجد العمري، وقد سمع أن رؤى الأسحار قريبة الوقوع، وأنه أوى لفراشـه متوضئاً، كما أن البشارة في الرؤيا لا تكون إلا من الله سبحانه .
وذهب إلى العمل تعتريه غبطة، وانغمس في دوامة الحياة، ومنها نقاشات مع زملائه، أحاديث بين العام والخاص، وبين الثقات إذا خلوا ببعضهم تدور نقاشات تتخطى المحظور، كانوا يتناقلون همساً أخبار نسائم ربيع الحرية على البلدان العربية، ويتسآلون متى تتفتح عندنا الزهور وتشرق شمس الحرية، فعلق أحد أصحابه أن دفء الجو في إفريقيا بسبب قربها من خط الاستواء، جعل ربيع الأمة يبدأ من عندهم، لذلك سبقوا ربيع سورية فما علينا سوى الصبر، فهذه من الأقدار الكونية لله سبحانه، وهي ستصل لا محالة .
وبين الآمال والأماني أحياناً تموه الفواصل، فلا أصعب على إنسان من الشعور بالعوز، خصوصاً العوز في حريته حيث يدرك أنه على هامش الحياة، وسلبت إنسانيته بتفكيرها وتعبيرها وجمالها، وزج به في مرتبة أدنى هي أقرب للبهيمية، التي تأكل وتشرب وتسافد، فيحاول كلٌ حسب اقتناعاته الفرار من هذا الجحيم، بعض ممن إيمانهم بلاقع، يختارون المعاصي، فيكذبون على أنفسهم بالتميز عن الحيوان، أما المؤمنون فيعملون على تقوية صروح الإيمان في صدورهم، وصاحبنا منهم رسم لنفسه خطة بالازدياد قرباً من الله ولو خطوة يومياً .
فمنذ فترة من الزمن يحرص على الاعتكاف بين المغرب والعشاء في المسجد، يذكر الله، أو يطالع في كتاب يزداد به علماً، هو وثلة من رواد المسجد بما فيهم الإمام، وهو عالم مستور الحال لا يفارق مسجده إلا نادراً، لكنه مستأثر بقلوب المصلين علماً وسلوكاً، فهو جبل علم يعصمهم من الخطل، وعادة ما يتنحى في ركن قصي من المسجد يقلب الطرف في كتاب، لا يقطعه سوى سائل يجيب عن سؤاله، فاغتنم فرصة خلوّ الشيخ من مستفسر، فتوجه نحوه وقص عليه الرؤيا، فقال الشيخ:
أوصيك هذه الإيام بالإكثار من الأعمال الصالحة، ولا تغفل عن ذكر الله، وسكت الشيخ، حاول استزادته
لكنه لاذ بالسكوت .
سأل في استدراج مكشوف للشيخ عن علاقة المسجد العمري بالفتاة في الرؤيا، وأخذ يفصل للشيخ أن المسجد العمري في وسط البلد، ونادراً ما يصلي فيه، بل أن صلواته فيه تعد على أصابع اليدين في العام كله .
قال الشيخ: المسجد العمري نسبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه إشارة، لمكافأة المولى جل ثناؤه لعمر رضي الله عنه بقدرٍ يتمناه كل مسلم في الدنيا .
عاد صاحبنا إلى البيت وهو يفكر، في المسجد العمري، والفتاة، والقدر الأمنية، أمور صعبَ عليه الربط بينها .
في نهاية الإسبوع وتحديداً يوم الخميس، وفي العمل أخبره أحد الثقات، أن شيخ المسجد العمري يعزم على التحدث هذه الجمعة عن أوضاع البلد المزرية، ويقول محبوه أنها ستكون خطبة نارية، وأنه سيصلي عنده هذه الجمعة، ورغّبَ إليه الحضور معه .
صبيحة يوم الجمعة، وبعد العودة من صلاة الفجر، وهو جالس مع أمه كالعادة، قص عليها الرؤيا، وأنه صلى في المسجد العمري، ولمح فتاة بارعة الجمال، وأُلقيّ في خلده أنها زوجته .
وأكمل حديثه سأذهب اليوم لصلاة الجمعة في المسجد العمري، لعلي أستطيع إمساك طرف الخيط، وعندما أعود أخبرك عن عنوانها .
ومع أن والدته أمية لا تقرأ ولا تكتب، فوجئت بهذه الخِطبة المنامية، لكنها قالت: ألا توجد طريقة أخرى للسؤال عنها ؟.
أجاب: هل تعرفين طريقة أخرى ؟ . ثم أردف : لابد من الذهاب لعل أحد الأصدقاء يذكر لي أن ثمة فتاة من أقربائه، أو من معارفه ..الخ .
قالت الأم : توكلنا على الله، مع أني أشعر بنوع من الانقباض .
ذهب للمسجد العمري، وفعلاً كان الخطيب على الموعد، وهو يحدث مستمعيه، عن عزة المسلم، مما أثار النخوة في المصلين، فخرجوا إلى باحة المسجد، ليقولوا ولأول مرة : - الله، سورية، حرية وبس -، لقد أسقطوا الأصنام من صدورهم وكسَروا حواجز الخوف، لكن زبانية الطاغية عاجلوهم خوفاً من أن أصواتهم قد تصل إلى الشعب كله، ثم أطلقوا عليهم النار، فجرح صاحبنا مع من جرح، فنقله أحد أصحابه إلى حرم المسجد، وهو يبستم ويقول، عرفت تعبير الرؤيا، فالفاروق رضي الله عنه ختم الله له بالشهادة، وأمل من الله الجزء الباقي من الرؤيا، ثم تشهد، وعرجت روحه إلى بارئها .