ضيفة

عبد الرزاق اسطيطو

عبد الرزاق اسطيطو /المغرب

[email protected]

"منذ أيام وهو يحاول ان يفتض بياض القماش،كل التفاصيل واضحة في مخيلته لكن أنامله لا تقوى على الإنطلاق"

محمد برادة "الضوء الهارب"

كانت لوحدها لما لما كسرت بطقطقت حذائها ،وبقامتها الممشوقة صمت المقهى،ودون أن تعير اهتماما لأحد اختارت طاولة قريبة من مدخل المقهى ،منزوية جهة اليمين ،بجانب نافذة زجاجيةمغلقةتطل على شوارع خالية لا حراك فيها،ضيقة ومتقاطعة تتوسطها مساحة خضراء بها نافورة مهملة ،مسيجة بقضبان من حديد قصيرة الطول ،مسننة،ومطلية باللون الأخضر الغامق،دائرية الشكل تكاد تخفيها زخات المطر،وكتل الضباب العائمة في الهواء.

بهدوء وضعت حقيبتها اليدوية السوداءعلى طاولتهاوسحبت الكرسي نحوها قليلا،ثم شرعت في فك أزرار معطفها الوردي الطويل .

لما انتهت من ذلك،ألقت به على صدر مقعد قريب منها وجلست قبالتي،لم يكن يفصلني عن معطفها الذي يتمرغ في عبق عطرهاالباريزي الفواح سوى مسافة خطوة يشغلها كرسي فارغ ،ولم أكن لأمتلك الشجاعة الكافية لأترك مقعدي وأقوم بمثل هذه الخطوة الجريئة .لأنني أعرف مسبقا  أنه ستخونني كما العادة وفي تجارب سابقة عباراتي ،ويجف صوتي وحلقي أمام أي  جمال أنثوي آسر .

لذلك تسمرت في مكاني واكتفيت بالنظر إليها ،لما امثثل النادل أمامها وكان شابا في العشرين من عمره ،طويل القامة ،نحيل كالقصبة،يرتدي بذلة بيضاء نظيفة،تتوسطها ربطة عنق سوداء طلبت منه ،أن يحضرلها فنجان قهوة وكوب ماء ،كانت زخات المطر تداعب وجه الزجاج من الخارج وتتجمع في شكل خيوط رقيقة وأحيانا في شكل جداول متداخلة تتجمع في شكل نهر لتصب بعد ذلك في تموج موسيقي هادئ عبر ملاسة الزجاج إلى الإسفلت.

بدى الجو داخل المقهى بوجود الفاتنة دافئايساعد على الحلم والسفر والكتابة ،وبعناية لا تتقنها سوى الممثلات البارعات وعارضات الأزياء الجميلات ،تخلصت من فولارها  المبلل بالمطر والشفاف، ودفعت بأناملها الرقيقة شعرها الأسود الناعم والكثيف إلى الوراء ،فانسدل كأمواج صغيرةعلى كتفيها وغطى ظهرها وجانبا من مقعدها حتى خلت أنه لا محالة سيدركني كالليل،وفي قرارة نفسي تمنيت ذلك وتمنيت أكثر لو كنت رساما ،بيدي ريشة وقماشا لأشرع في رسمها ،كما هي الآن ،أو لو كنت  عازفا على القانون فأسمعها خلجان قلبي في مقاطع موسيقية لا تنسى ،أو لو كنت شاعرا لنظمت لها أبهىالقصائد وأهديتها لعيونهاالساحرة ،لكن ههيهات ،فأصابعي كالعادة ستصاب بالشلل ،أمام مغريتي هاته بوجهها الملائكي الخال من المساحيق،اللامع كالمرآة،والذي تزينه عينان فاتنتان،مشرعتان على نهر اللوكس ،يشع منهما الفرح والضحكات وأعراس الفلاحين بعد موسم الحصاد .

لم تكن من رواد المقهى ولا من فتيات المدينة  ،ربما جاءت ضيفة على مدينتنا الصغيرة هاته ،وهي الآن تنتظر عاشقا ما ،فمقهى شهرزاد اعتادت استقبال العشاق والغرباء .

تناسلت الأسئلةفي رأسي وأنا أحدق في هذا الوجه الساحر،وتداخلت الأحداث والشخصيات التي بدأت في رسمها قبل وجودها،كل ذلك الآن تلون وامتزج بأنفاسها،وفي لحظة طوح بي الخيال بعيدا ،ومر الوقت من دون أن اشعر بساعة مغادرتها للمقهى ،ولولا النادل الذي طلب مني بأدب أن أغادر أنا كذلك المقهى،لأن الوقت تأخر كثيرا وأشرف على الفجر، ولم يعد تمت زبون بها غيرى ،وحين سألته ،عن ضيفتي التي كانت بالقرب مني ،ابتسم ،وقال: "رحلت مع آذان المغرب""  نقدت النادل وفي صمت تأبطت محفظتي ،وغادرت المقهي بعد أن صارت فاتنتي بطلة لقصتي الجديدة "ضيفة" .