نعم... نعم يا محمد
أ.د/
جابر قميحةما حل موسم الحج إلا وتذكرت هذه القصة العجيبة التي سأقصها علي القارئ بعد قليل, كما أعرضها كذلك علي العلماء والفقهاء, آملاً أن أجد لها تفسيرًا علميًا مقنعًا. وعلي أية حال تبقي هذه الواقعة دليلاً علي أن هناك مجهولات كثيرة أمام العقل البشري, لا أقول في الفضاء - الذي يزعم الإنسان بغروره أنه قهره ولكن في الأرض التي يدب عليها, وفي المحيط الذي يعيش فيه .
**********
كان ذلك مساء يوم الجمعة (أول ديسمبر 1967), كنت جالسًا في انتظار أذان العشاء بالجامع الكبير في المنزلة دقهلية - مسقط رأسي - ورأيت رجلاً نحيلاً, أبيض البشرة, يرتدي جلبابًا رماديًا... جلس إلي يساري, لم يشد نظري إليه إلا أنه كان يضع علي رأسه عمامة خضراء. وأهل المنزلة يطلقون علي «العمامة الخضراء» وصف «الشرف الأخضر», فيقولون «فلان لابس شرف أخضر» أي معمم بعمامة خضراء, والسبب أن هذا اللون اختصت به عمائم الأشراف الذين ينتسبون - كما يقولون - إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وآل البيت .. هذا رجل غريب عن المنزلة ولا شك.. دار في ذهني هذا الخاطر, لأن أصحاب العمائم الخضراء من أهل البلد, كنت أعرفهم جميعًا, وهم لا يتجاوزون سبعة أشخاص.
أخرج الرجل الغريب من جيبه مصحفًا صغيرًا, وشرع يتلو سورة الأنفال بصوت خفيض, ولكنه كان ينساب إلي أذني كماء الذهب. وأشهد أنني ما سمعت في حياتي تلاوة أجمل وأبـبهي من تلاوة هذا الرجل, حتي إنني أملت رأسي علي كتفه اليمني كيلا يفلت مني حرف واحد مما يتلو, وشعرت بتيار من الدفء يغمر أعماقي في هذه الليلة الباردة, إلي أن وصل الرجل إلي قوله تعالي: { يا أيها َّالذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم .....} [الأنفال: 24]. وقف الرجل عند هذا الجزء من الآية... وأخذ يكرره عدة مرات, وفي كل مرة كان صوته يزداد خشوعًا, وتهدجًا, وفي كل مرة يزداد شعوري بالدفء, إلي أن تحول صوته إلي ما يشبه النشيج الباكي, وأخذ يردد " أنا مستجيب يا محمد... نعم نعم يا محمد... نعم يا حضرة النبي».. نظرت إلي وجه الرجل فرأيت الدموع تنهمر علي وجنتيه وذقنه الحليقة, ووجدتني أردد معه بصوت مهموس " نعم يا محمد.. نعم يا حضرة النبي".
وبعد الأذان... أعاد الرجل مصحفه إلي جيبه. ومن جيبه الصغير في أعلي الجهة اليسري من ثوبه أخرج زجاجة صغيرة, وفتحها عن "مرْود " كمرود المكحلة, ومسح باطن كفي اليمني بهذا المرود الزجاجي المحمل ببلل من عطر فواح.
وبعد التحيات.. وبُعيٍد التسليمة اليمني.. أدرت رأسي بالتسليمة اليسري... فلم أجد الرجل.. انتفضتُ واقفًا - وكان أغلب المصلين مازالوا جلوسًا - أدرت نظري في كل أنحاء المسجد بحثًا عن صاحب العمامة الخضراء - بل عن أي لون أخضر - دون جدوي.. واستبد بي شعور من الإحباط والفزع, وكأنني فقدت شيئًا عظيمًا عزيزًا علي نفسي... وفي ذهول سألت من كان يصلي علي يميني:
- أين الرجل ؟
- أي رجل ?
- الرجل الذي كان يصلي علي يساري... صاحب " الشرف الأخضر".
- لم يحضر الصلاة أحد معمم بشرف أخضر.
بدأت أشعر بانكسار شديد, أيمكن أن يكون كل ما رأيت خيالاً أو وهمًا?. آه... والعطر?! رفعت كفي إلي أنفي... الرائحة فوّاحة جميلة... قد يكون ذلك وهما أيضًا. قصدت صديقًا كان يهمّ بمغادرة المسجد وقربت باطن كفي اليمني من أنفه دون أن أتكلم فهتف:.. الله!! الله!!! منين اشتريت هذا العطر??!! . ولم أجب... وغادرت الجامع ولساني يردد بنبرات هامسة: نعم يا محمد... نعم يا حضرة النبي.
.**********
وبعد قرابة ست سنين توجهت لأداء فريضة الحج, وبدأنا بالمدينة المنورة, وبعد أن صليت العشاء بالمسجد النبوي الشريف مساء الأربعاء غرة ذي الحجة 1393 - 26 من ديسمبر 1973).. جلست في أحد المقاهي التي كانت تتناثر حول المسجد النبوي...
كان الجو شديد البرودة.. رفعت فنجان القهوة إلي فمي, ولكني توقفت... اكتشفت أن الفنجان لم يغسل جيدًا , فعلي حافة الفنجان وجزء من جداره الأعلي الخارجي «بصمة شفة» الشارب السابق. ودارت في ذهني خواطر مفزعة, والفنجان قريب من فمي, ألا يمكن أن يكون «صاحب البصمة» مريضًا بالسل, أو الكوليرا, أو بمرض آخر معد خطير?.. وهممت بوضع الفنجان علي المنضدة ، ولكني شعرت بمن ينقر علي كتفي من الخلف.. وهو يردد بصوت خافت «اشرب... اشرب القهوة يا حاج.. توكل علي الله, فهو الحامي.. الشافي». وكأن الرجل كان يقرأ أفكاري, ورأيت يده تمتد إليّ «بمرود» مبلل بالعطر... فتحت يدي اليسري لاستقبال العطر...
- لا.. هات اليمني يا حاج... تيامنوا... نقلت فنجان القهوة إلي يدي اليسري, وفردت كفي اليمني لتستقبل عطر الرجل الفواح... كل ذلك وأنا مشغول عن وجه الرجل بالقهوة... وبكفي... وهو يقول:
- نفحة من نفحات النبي صلي الله عليه وسلم... نعم يا محمد.. نعم يا حضرة النبي...
نهضت واقفًا... ياه... إنه هو... الرجل النحيل الأبيض, ذو الجلباب الرمادي والعمامة الخضراء... وسقط الفنجان من يدي علي الأرض وصار فتاتًا... وصاح عامل المقهي «حاسب رجليك والزجاج» وفي اللحظة التي نظرت فيها إلي موطئ قدمي كان الرجل قد اختفي كأنه شعاع خاطف من البرق, وأرسلت نظري إلي أقصي مدي الرؤية.. بحثًا عن أي لون أخضر ،فلم أجد... وأخذ لساني يردد كأن قوة غيبية تديره " نعم».. نعم يا محمد... نعم يا حضرة النبي".