حينما يقود الضياع للسعادة
غسان الشريف
- يا سوسن لابد أن نتحرك الآن!
قالها حاتم وقد فرغ صبره من خشيته التأخر على موعد الإجتماع في رحلة عمله إلى المدينة, وتابع: أنت التي أصريت أن تأتي معي اليوم وأنت تعلمين أن إجتماعي هذا في منتهى الأهمية للشركة حيث أننا نريد التوسع في منطقة المدينة ونتنافس على المشاريع الحكومية هناك.
- قالت سوسن, وهي تخلع حذائها الذي لبسته للتو: أعطيني لحظة يا حاتم, أرجوك!
- أنا لن أنتظر يا سوسن ولا دقيقة واحدة, أنا سأركب وأشغل السيارة, وإن لم أجدك هناك, سأذهب. فأنا أنتظرك منذ ساعتين.
إتفقنا, قالت سوسن وهي تتجه نحو الصالة, ثم التفتت إليه وهي تتابع المشي, ولكن لا تنسي أن تأخذ معك صندوق الرحلة.
حمل حاتم الصندوق وهو يتأفف, ونزل بسرعة إلى السيارة, وأدراها, ثم فتح الشنطة ووضع الصندوق فيها, وهو يحدث نفسه أنه سسيركب بسرعة ويطلق لسيارته العنان قبل أن تأتي سوسن, ولكنه لم يكد يقفل شنطة السيارة, حتى سمع صوت سوسن وهي تلهث هاقد أتيت يا حاتم. رد حاتم مغاضباً:أخيراً!؟!.., ثم تابع: هيا بنا نذهب.
كان طريق المدينة ذلك اليوم شبه خالي من السيارات لتأخر الوقت, فقد خطط حاتم للسفر بعد عودته من الدوام وأخذه قسطاً من النوم. ولكن منذ أن عرفت سوسن بعزمه على الذهاب ألى المدينة, توسلت إليه أن يأخذها معه, فهي تكاد لا تعرف أحداً في جدة بعد أن إنتقلت إليها لظروف عمل حاتم منذ خمسة أشهر. وكان ذلك سبباً لتأخره في السفر.
- سامحك الله, قال حاتم, لو لم تصري على الذهاب معي لكنت الآن في منتصف الطريق تقريباً.
- أسفة يا حاتم, ولكنك لم تخبرني إلا وأنت تتجهز للرحلة.
لقد نسيت تماماً فلقد.. قاطع حاتم رنين الجوال, فنظر إلى الرقم, وارتسمت إبتسامة على شفتيه ثم رد: ألو: كيفك يا عمر؟ أنا الآن في الطريق. نعم لقد تأخرت قليلاً, ثم نظر إلى زوجته بعتاب, وتابع قائلاً: حدثت ظروف أرغمتني على التأخر. أسترسل حاتم في الكلام مع عمر, للتخطيط في إجتماع الغد, وعندما لم تجد سوسن نتيجة من الإنتظار, إستسلمت للنوم العميق.
أخذت المكالمة من حاتم قرابة الساعة, إتفقوا فيها على التفاصيل المهمة التي يريدون أن يناقشوها وكيفية إدارة الإجتماع والأجندة المطروحة للنقاش وأمور غيرها. وقد قاربت الساعة على الواحدة صباحاً عندما إنتهي حاتم من مكالمته, وبدا الطريق طويلاً وكأنه لا ينتهي, وهو ما دعا حاتم للإنتباه إلى للوحات الإرشادية, نظر حاتم إلى أحد هذه اللوحات فإذ به مكتوب عليها, رابغ 50 كلم. أوه يا إلهي, كم أنا مغفل, هذا الطريق الخطأ, كان على أن أخرج من المخرج السابق, كما نبهني عمر, ولكني انشغلت بالكلام معه عن النظر في الطريق. أخذ حاتم أقرب مخرج وهم بالعودة إلى مخرج المدينة, ولكن السيارة اضطربت وظهر فيها صوت مفاجئ. أه هذا ما كان ينقصني. أوقف حاتم السيارة وخرج بسرعة لينظر إلى الإطارات, ثم همهم قائلاً: لا حول ولا قوة إلا بالله, مصيبة!! عاد حاتم إلى السيارة ليفتح الشنطة ويلقي بظرة على الإطار الإحتياطي, ولكنه لم يجده. قفل حاتم الشنطة محبطاً وقد تذكر أنه أودع الكفر الذي إنفجر قبل أسبوعين للتصليح في الورشة, ولم يتذكر أن يسترده إلا للتو. عاد حاتم إلى مقعده وألقي حاتم بنفسه عليه, وأغلق الباب ورائه بقوة جعلت سوسن تستيقظ خائفة وتسأل بصوت نعسان: ماذا هناك يا حاتم؟
- سلامتك, الكفر نفس, ولقد أضعنا طريقنا إلى المدينة وها نحن هنا, أنا وأنت فقط في قلب الليل.
- بدت سوسن غبر آبهة بما قاله حاتم, وقالت: شيئ جميل أن نكون أنا وأنت لوحدنا في هذه الليلة المقمرة يا حبيبي.
- رد حاتم بصوت غاضب: حبيبي, ليلة مقمرة! أشيء جميل أن نكون لوحدنا في قلب المجهول, أجننت يا أمرأة؟
- لا تعلم كم كنت أتمنى أن أجلس معك لوحدنا. فنحن لم نفعل ذلك منذ أن أنتقلت من الخبر غلى جدة, وكنت قبل ذلك مشغول بعملك الجديد الذي إنضممت إليه بعد زواجنا بأيام. قالت سوسن هذه الكلمات وعينها قد أغرورت بالدموع.
- رق حاتم لعبرات زوجته, وحاول كظم غيظه, وقال: ياسوسن, أنت غير مقدرة للموقف يا سوسن, نحن الآن بعد منتصف الليل ولن أتمكن من اللحاق بالإجتماع لأنه لا يوجد عندي إطار إحتياطي. وحول نظره إلى الزجاج الخارجي لينظر إلى الطريق الممتد من أمامه وتنهد بعمق ثم قال بصوت هادئ: أتعنين أنني كنت بعيد عنك كل هذه المدة؟ أهذا صحيح؟
- نعم يا حبيبي, بل أنت تستغل أوقات فراغك في البيت لتلعب ألعاب الكمبيوتر أو تتحدث بالهاتف أو تتصفح بريدك, ولطالما خرجت مع أصدقائك وتركتني وحدي في البيت أقاسي الوحدة في مدينة لا أعرف فيها أحد.
- ولماذا لم تنبهيني؟ نحن زوجان منذ ما يقارب السنة يا سوسن.
- كنت أقول لنفسي أنه يفعل ذلك من أجل أن يحقق نجاحه العملي في البداية, ولكني عندما عزمت على إخبارك إنشغلنا في النقل إلى جدة, وبعد ذلك لم أتمكن من مصارحتك لأنك كنت ترجع كل يوم متأخراً, فلا أحب أن أضايقك بشكواي.
- إلتفت حاتم إلى سوسن وقد بدا عليه التأثر: ألهذه الدرجة كنت مشغولاً عنك. ثم نظر خفض نظره وقال بصوت خفيض: سامحيني يا حبيبتي. أنا لم أكن أقصد أن أتجاهلك, فأنت تعلمين أنني أفعل ذلك كله من أجلنا نحن الإثنين.. ولكن سوسن أمسكت بيد حاتم, فرفع رأسه, وعندما هم أن يتابع الكلام وضعت يدها على شفتيه قائلة: لا عليك يا حبيبي لا عليك. دعنا نستمتع بهذه الليلة الجميلة الأن, وغداً صباحاً ستمر سيارات كثيرة من هنا, وسنجد من يساعدنا حتماً.
- كيف سنقضي ليلتنا في مثل هذا المكان الموحش؟
- ردت سوسن بسرعة وقد إمتلأ صوتها بالحماس: لقد أخذت احتياطي للسفر, فقد جلبت معي الطعام والشراب وفراش لنجلس عليه سوياً.
- ضاقت عينا حاتم وإبتسم إبتسامته الماكرة مبدياً إعجابه بالفكرة وقال: أهم شئ أنك أحضرت الشاي!
- نعم دلة الشاي ودلة القهوة والتمر أيضاً, وأهم ما أحضرته هو كتاب الشعر, ولقد جلبته في اللحظة الأخيرة.
- كتاب الشعر, لم أكن أعلم أنك تحبين الشعر, أنا أيضاً أحب الشعر.
- لا أكاد أصدق.
- والله, أنا أيضاً عندي محاولات شعرية سابقة.
- ماذا تعني بسابقة؟
- لا عليك الآن, دعينا نستمتع بهذه الليلة الجميلة الأن, وغداً صباحاً ستمر سيارات كثيرة من هنا, وسنجد من يساعدنا حتماً.
أطلق الزوجان ضحكات عالية, خففت عليهما وحشة الطريق, ثم نزلا من سيارتهما التي كانت تقف على قارعة الطريق السريع بإتجاه جدة, وشرعو بمساعدة بعضهم بعضاً لفرش البساط وأخذ صندوق الرحلة من السيارة. وأخذت سوسن كتاب الشعر من حقيبتها اليدوية ووضعته بجانبها.
- ياله من منظر رائع يا سوسن, أتعلمين, أنا لم أر السماء أبداً بهذا الجمال, وكأن القمر عروس في ليلة زفافها وقد إلتفت حوله النجوم مهنئة.
- هذا المنظر ليس جديداً على يا حبيبي, فقد كنت في كل ليلة مقمرة أشعر بك قريباً مني, حتى وإن كنت بعيداً وأقرأ هذه الأبيات لفاروق جويدة:
يدور الزمان وقلبي لديك
يضيع الأمان فأبحث عنك
ويشتاق قلبي كثيرا إليك
إذا جاء صيف سألت النسيم
ترى من عبيرك هذا العبير؟
وإن طال ليل تساءل قلبي
بربك أين ملاكي الصغير؟
وإن جاءني الحزن ضيفا ثقيلاً
يعاتبني الدمع هل من رفيق؟
فأبحث عنك على كل ضوء
وعمر الحيارى ظلام سحيق
لأنك مني وأني إليك
كما يعرف الزهر طعم الرحيق
وأبحث عنك كثيراً.. كثيراً
فأنت الضياع وأنت الطريق
- سكت حاتم لبرهة من الزمن, وقال بعد تنهيدة طويلة: لا تقلقي يا حبيبتي, فأنا لن أبتعد عنك بعد هذه الليلة أبداً, صدقيني, هذا وعد.
كانت ليلة جميلة تلك التي قضاها الزوجين في قلب الصحراء, يقرأن الشعر ويلهوان بالغزل وتلتف حولهم النجوم مهنئة ذلك الزواج الذي وجد سعادته في طريق الضياع.