تموت مرتين
هدى الرواشدة
[email protected]
الفضاء الرحب لم يتسع لتحليق تلك العصفورة ، التي طالما زقزقت
أحلاما وردية ، ورؤى مستقبلية ، تناثرت كواكب ونجوما متلألئة تراها دون أن تلمسها .
قدر لها أن لا تحلق إلا على سفوح تلك الجبال المحيطة بتلك البقعة الصغيرة من وطنها
الحبيب،التي تنحدر إليها انحدارا، ثم تصعد إليها صعودا . وما بين الانحدار و الصعود
هنالك نقطة تشعرك أن لا نبض لكائن خلف تلك المرتفعات ، فتصاب ذعرا وهلعا إلى أن
تلوح معالم حياة ، فتعيد الطمأنينة و تقذفها في قلبك من جديد .
باستطاعتك أن ترى القرية بأكملها دون أن تمد بصرك بعيدا،
ألأبنية الطينية قد تساوى عددها مع الأبنية الإسمنتية المتواضعة ، وربما يقل عدد
قاطنيها عن عدد ما يربون من طير ودواب .
رضيت كفاح بمصيرها ، وكلمات والدها ما تزال ترن في أذنها : قلة
الحال ليست عيبا، السعادة حيث تكمن البساطة، لا يغرنك المظهر، ابحثي عن الجوهر.
لم تدر يوما أن تلك الجبال السامقة التي طالما تغنت بها ستلتقي
برؤوسها من الأعلى لتطوق بها , فتبني لها قبرا فوق التراب إلى أن يحين دفنها جثة
هامدة تحته . لم تكن تعلم أن تلك الزفة التي أحضرت إليها شاردة الذهن، تائهة الخطى،
هي جنازة أنوثتها الموءودة .
استسلمت لأنامل مزينتها تتخلل خصلات شعرها برقة، تلبسها طرحة
بيضاء، زينتها بأزهار قرنفل واحدة بيضاء تغتالها أخرى حمراء، وهكذا دواليك المشيعون
كثر، والشماتة تعلو وجوههم، وتشحنهم سرعة بدفنها ، دون حراك من غيور محب! أدخلوها
إلى القبر دون أن تأخذهم بها شفقة لاستسلامها، وأدخلوا معها إبليس، عروس مكفنة بثوب
زفاف أبيض، تدخل منزلها الذي أعدوه لها دون أن تراه، الميت لا يرى مثواه الأخير .
بحثت عن كسرة خبز فلم تجد، القبر لا طعام فيه، الولائم لأهل العزاء فقط .
بدا لها المكان موحشا ، تطل من زواياه الأفاعي، وتزحف فيه
الحشرات ، صرخت بأعلى صوتها " أخرجوني من هنا ". فأجابها أحد آخر الفلول المشيعة :
" إبق داخلا , الأفاعي التي جوارك سمها غير قاتل ، حاولي التعايش معها، إن خرجت
واجهتك أفاع سمها أكثر فتكا".
كيف تنفق ساعات ليلتها الأولى في مكان لم تألفه بعد؟ تمنت لو
أن عقارب الساعة تعكس دورانها فيعود بها الزمن إلى الوراء . عبثا، حاولت أن تنام،
الزمن يمر بتثاقل كبير وكأنه يتلذذ بأرقها ويتمتع بتقليب جسدها ذات اليمين وذات
اليسار .
تشفق عليها الشمس ,فتبزغ مبكرة على غير عادتها ، مصوبة سهام
نورها نحو غرفتها، يتسلل النور من خلال شقوق النافذة الخشبية، فيقتحم الأمان قلبها،
تنهض وذراعيها تتقدماها وضعت فيهما كامل قواها المنهكة ، دفعت النافذة بعنف وكأنها
همت بإلقاء نفسها . تنقلت عيناها في أرجاء الباحة فلم تجد أحدا من المشيعين، لم
يشغل المكان سوى طيورا وماعزا و بهائم قد انهمكت في معزوفة خاصة كل أدى دوره بإتقان
. تسللت النسمات العليلة إلى قلبها الصغير ...انسحب الصمت ترافقه الوحشة وحلت
مكانهما زقزقة العصافير.............