"نا" الاثنين

"نا" الاثنين !

رحمة حجة

[email protected]

كانت رائحة الجبن البلدي تسيطر على هواء "المدينة" ، الذي تنفسه آلاف المارقين في شوارعها، و عجت الساحات بهواة التصوير الفوتوغرافي، و آخرون بتذوق حلوها الذي أكسبها شهرة إقليمية. و كنت أنت على مقربة من تلك الحشود، تستجمعني بذاكرتك و عينيك، و أنا لا أراك!

ككل مرة، سرقنا ذلك الوقت من القدر معاً، و سرقته منك بحذر، كي تلاحظ أو لا تلاحظ انفعالي الطفولي جراء لقائك، فلا فرق! لكنني أردت وقتها أن لا يعنيني هذا كله، فهذه لحظات استثنائية، لن تتكرر مع شخص يشبهك على الأقل، لكنها ربما تتكرر مع شخص يحمل صفات منطقية تجعله إنساناً وسط أشباح الحاضر، فأنا صرت أؤمن بوجود الكثير من الأرواح الاستثنائية بجمالها، لكن التي تستحقني لم تأت بعد.

 و بما أن شيئاً في أعماقي يدرك أنك تحمل بعض الجمال، قررت أن لا يضيع مني في زحمة هذه "المدينة" التي ركدت منذ زمن، و تجددت فيها الحياة إنعاشاً لحركة التجارة كما أخبرتني، لنتفق على جولة، بالأحرى على عمر تم تأجيله، و ماض لذاكرة مقبلة، سأحن لها وحدي.. أيضاً لا بأس.. ما زلت سعيدة!

حين وجدتك في بداية ذلك العمر، قلت لي " إن اثنين يبحثان عن بعضهما لن يجد أيّ منهما الآخر" تنبيهاً لي بأن عليّ البقاء في مكان حددته لشخص يبحث عني، و لا أفتعل الدوار كي أسبقه، و حيث أنك لم تقلها بقصدية عاشق، فهمتها أنا بمكر امرأة تنتظرك، و خرجت بنتيجة مفادها "أن على أحد الطرفين البحث عن الآخر كي يلتقيا" ؛ لذلك فضلت أن أكون هذا الآخر!

كأولى دهشتي بك، تحدثني عن ارتباطك بتاريخ تلك الأمكنة، و صداقتك مع حجارة بيوتها العتيقة، و نوافذها المدلاة بعناية، دون أن تفتح ستائرها للغرباء، أو يتبخر من خلالها صوت امرأة يدلل على حياة أصحابها، فوحدها النباتات النضرة، و المياه المتدفقة من أنابيب الصرف الصحي، تعطينا إشارات بأن الحياة ما زالت بصحة جيدة، داخل تلك الجدران!

تحيط بناظريك كل زاوية و رصاصة و صوت مدفعية، و تشيح بسمعك عن أجواء الأعراس في "المدينة" ؛ ليخترق صمتي أذنيك، فوحده القادر على حثـك متابعة الكلام، و نسج التفاصيل التي أعنى بها كي أحفظها آجلاً عن ظهر قلب، لا كي أقف في محطاتها و أدقق بمدى صوابها أو خطئها، فلست الآن في معرض حوار سياسي، إنما في مأزق تاريخي أحاول الخلاص منه بمتابعة يديك و صوتك الذي يتأثر بحركتهما حين توضحان مغزى الأمور.

- أظنني أثقلت عليك هذا النهار بتلك الجولة....

- لا تهتمي، فقد تعودت على ذلك، و لا يفتأ أيّ من أصدقائي الاستنجاد بي حين زيارتهم هنا

أفكر.. لن يعنيني التشبيه بيني و بين الآخرين، و بعاديّة الأمر لديك ، و بأن كونه معي لن يختلف عن كونه مع غيري... كل هذه تداعيات شيطان يريد أن "ينغصّ" علي، فأعوذ بالله منه، و أعود إليك، وحدك..

يغيظني ذكرك لاسم فتاة أخرى، و يفاجئني "دفاعك عن نفسك" بأنك لست على علاقة وطيدة بها، رغم أنني لم أسألك، و لا يهمني التدخل في خصوصياتك، إذ يهجسني أنني لست فاتنتك! .. و "حبيبتك يوماً ستأتي كي تبادلك الوفاء، فلن أفرح أو أهلل أو أفكر أو أحلل" لما لن يحدث بيننا، تفادياً لأعراض عشق جانبية، فأهم ما في الأمر أنني أدرك مكانتي و أدرك كذلك ضرورة أن أفرح و أنتشي بنكهة السعادة التي أضفتها على يومي هذا..

 و طبعاً هذا لا ينفي أنني في زمن ما.. أحببتك.. و تقصدت الهروب منك دوماً، من أول التفاتة لصوتك في ذاك الصيف الغابر.. و صدقني، ما زلت أمارس الهروب منك، لتجنب البكاء حين تغدو بعيداً.. بعيداً، فأنا لا أحتمل رحيلاً آخر، بالأحرى لا أحتمل انكسار حلم، و انعكاس حقيقة أدركها في أعماقي، و أحافظ عليها كسرّ يودي كشفه إلى فضيحة!! لذلك، سأؤمن بأنك ككل الأشياء الجميلة، تحافظ على خاصيتها بأن تبقى بعيدة، كوطن طالما تطلعت إليه، لكنه ما زال جميلاً و بعيداً !!