بتلات متساقطة تلوّن لوحتنا
بتلات متساقطة تلوّن لوحتنا
أفنان شمس الدين ريحاوي
الأشعة الذهبية المتناثرة بين أزقة شوارع القاهرة أخذت تتلاشى شيئا فشيئا، والطيور
المرتعشة تحلق عائدة إلى أعشاشها، الرياح الخريفية تهب حينا لتخطف أوراقا صفراء
وتسافر بها بعيدا، والغيوم تتلاقى في كبد السماء لتكرم أهل الأرض بقطرات مطر خريفية
تزيد فرحة الليلة بهجة، فهاهو المؤذن يصعد المئذنة ليرفع آذان المغرب ويكبر تكبيرات
العيد.
أسرعت إلى النافذة وفتحتها، أخذت تتنغم وتتراقص مع تكبيرات العيد التي انتظرتها
بشوق ولهفة، ومع كل تكبيرة يكبر قلبها حبا وفرحا، فالعيد أقبل إليها بأجمل هدية
ملأت حياتها سعادة وردية عاشتها قبل أن تعيشها، تزاحمت الخواطر في وجدانها، وتراكضت
قطرات الحب في روحها، شعرت بكل نسمة خريفية صافحت خديها وبكل رذاذة مطرية امتزجت مع
دمعتين لؤلؤيتين دفعتها لحظات السعادة التي تتخيلها والتي بثت الفرح في كل كيانها
قبل أن تأتي.
الحب....الفرح....الأمل....الحياة وكلمات قدسية أخرى رآها العيد فيها ترجمتها
الشابة ندى إلى أشعار صادقة وأنغام موسيقية مستقبلة بها العيد، لتفاجأه بعيد آخر
سبقه باتت تعيشه كل لحظة، همست مخاطبة العيد: بأية حلة عدت هذا العام يا عيد ؟؟!!
ففرحتي بك هذا العام ليست كغيرها فأنت أجمل عيد سأعيشه.
صوت بعيد أخترق الأحلام الوردية التي تعيشها الآن ندى عند نافذتها ليبعثرها في
الهواء برفق مناديا:
ندى....ندى.... تعالي يا ابنتي وساعديني في تحضير كعك العيد. وتستجيب ندى بخطوات
هادئة تاركة قلبها هناك يحلم بالسعادة المنتظرة مغنيا أغاني العيد.... عازفا ألحانا
موسيقية تطرب الكون كله.
لم تشعر ندى بالكعك الذي تصنعه وإنما شعرت بمشاعر أخرى زرعت في قلبها وأخذت تنمو
مع كل دقيقة لتعطي غراسا تتدفق مع الدم لتصل إلى كل ضلوعها مترجمة أسمى معانيها،
ابتسمت ندى ثم ضحكت بأعلى صوتها، لم تبالي بنظرات الدهشة والاستغراب التي حملقت
حولها، لقد كانت فرحة... سعيدة.... مسرورة ... صادقة في حبها للعيد.... وما جلبه
الهيد لها.
أنهت ندى كل عمل توجّب عليها عمله، فاستأذنت أمها وذهبت إلى غرفتها، بقي عليها أن
تخط كلمات العيد في رسالة جميلة لتعطيها إلى عيدها المنتظر، أمسكت الورقة والقلم
وبدأت تكتب...... فتتسابق الكلمات في ذهنها وتزدحم الصور في وجدانها، تحتار في
انتقاء الكلمات فكلها جميلة وهي تريد الأجمل، الأبيات الشعرية والخواطر الصادقة
تتقاتل على الأسطر الفارغة لتحوز بمكان تجلس فيه، لقد كانت دافئة فهي تنبع من نهر
دافئ في قلب ندى حتى شعرت أناملها بسخونة الورقة فانهت رسالتها بدمعتين صادقتين
سالتا على كلماتها الناعمة كاتبة ...... أنت أجمل عيد أعيشه .....
برفق ولطف طوتها و وضعتها في مغلف الرسائل أوشكت وضعها على الطاولة لولا دخول
مفاجئ لأخيها قائلا لها:
ندى.... باسم ينتظرك في غرفة الضيوف. تفاجأت وخيمت الدهشة على ملامحها، فقد كان
موعد اللقاء غدا، ارتبكت....ارتجفت....ثم وقفت...ترددت بأخذ الرسالة لكنها أخذتها
مخاطبة نفسها:
سأعطيه إياها معلنة له كل مشاعري وكلماتي.
بهدوء وسكينة دخلت ندى غرفة الضيوف، سلمت عليه ثم جلست، أحست بشيء ما، ساد الصمت
المكان سارقا كلماتها المجهزة لهذه الليلة، أحست أمها بإرادة باسم فاستأذنت مغادرة
الغرفة، مرت دقائق والكون متوقف عند هذه اللحظة، تجاهل النظر إليها ملتفتا يمينا
ويسارا، خفق قلبها وتعلقت نظراتها المتلهفة بشفتيه تستحثه على الكلام، لكنه ظل
صامتا لا نظرة ولا كلمة، ابتسم قلبها مبررا فعله بالخجل فحثها على المبادرة وتجميل
الموقف بكلماتها المعهودة، فقالت بمرح: كل عام وأنت بخير. لم يجب....لم يتحرك....لم
يهتز....بل زاد صمتا، راسما بصمته الخيبة في عينيها، فتابعت بنبراتها الخفيفة
محاولة تلطيف الجو مرحا :
سأحضر العصير لنشربه معا. أوشكت مغادرة الغرفة لولا صوته الذي أوقفها قائلا:
ندى.....................
استدارت لتتلقى سهما اخترق صدرها وثقب قلبها وبعثر دماءها ومشاعرها في لحظة رؤيتها
له وهو ينزع خاتم الخطوبة من اصبعه ويضعه على الطاولة، جفلت وتصلبت عضلاتها فجأة،
وتفجرت الدهشة كقنبلة على وجهها، لم ترى غير دمار وحطام....دموع تحترق....وآمال
تتبعثر....وأحلام تظلم توهج وجهها احمرارا وتلعثم قلبها في نطق دقاته المتراكضة،
حاولت قول شيء لكنها عجزت، فقد حبس ذاك المشهد لسانها في قفص كاذب، تلألأ بريق
الدموع في عينيها الحمراوتين منذرا بشلال جارف، أمسكت قلبها وجوارحها المذعورة
مكذبة ما يحدث، لكن خطواته نحو باب الغرفة يجبرها على التصديق، خاطبته بنبرة شديدة
الحزن والضعف: لماذا....؟!!
لم
يجب بل أكمل طريقه الذي بدأه منذ ثلاثين سنة تاركا قلبا يانعا جديدا أوقف نبضه
فأماته ليدفنه في حديقته التي بناها من الآهات.
الشابة ندى وردة من ورود مصر تساقطت بتلاتها أرضا وهي تحلم بالعيد.
شجرة
السنديان