الرّبيع الأول

مريم سيد علي مبارك/الجزائر

[email protected]

 بالفن، بالقلم، باللسان..سنمثل، سنعبر، سنقول :

كل يوم وكل شهر وكل عام وأنت حي بيننا..

حبيبي يا رسول الله

الأوراق في رحيلها عن الأشجار تشبه أمي في رحيلها عنِّي

الأشجار في حزنها تُجرِّدني من أفراح أمِّي

أتذَّكر وصيّة أمي الأخيرة قبل موتها

- يا ولدي ابحث عن الرَّبيع الأوّل وإياك إياك أن تسير على غير دربه وخطاه..

أخرج من المقبرة وقد قَبَرتُها في قلبي وأمشي في ليل بهيم، في شبه صحراء أمشي ولا أدري إلى أين أمشي أو إلى أيّ مكان ستسوقني خُطاي

بعد مشي طويل، أشعر بتعب شديد، يتملَّكني اليأس، يُراودني شعور بالعجز فلا ترى عيني سوى الضّباب

وفجأة، ينبلج نور من بيت يرسم لي طريقا إليه أشعر بالسعادة، أدق الباب فلا أحد يفتح، لا أحد يرد، أصرخ فلا أحد يسمع صراخي فيشتعل كانون اليأس في جوفي، أطوي جسدي عند عتبة الباب وأنام حتى الصباح

عندما ينبلج الفجر أستيقظ، فأواصل المشي وعزيمتي هي تنفيذ وصيّة والدتي الأخيرةالبحث عن الربيع الأول..

أمشي وأفكر أين يمكن أن أجد الربيع الأول؟؟، كيف بدأت الفصول وكيف أجد أول ربيع؟؟، في أي أرض بدأ وأي صباح عليه انفلق وعلى أي تربة ظهرت تباشير الزهور ؟؟ أي نوع من الربيع تقصد يا ترى ولماذا الأول بالذّات؟؟

أتراها ترمز إلى شيء معين أم تراه الربيع الذي أجد فيه سعادتي وهنائي؟؟

آه يا أمي ليتك تعودين..

ألا ليتك تعودين لتخبريني عن أول ربيع !؟

أمرّ على بضعة شبّان، أُقرؤُهم السلام فلا أحد يجيب، أسألهم أين يمكن أن أجد الرّبيع، فيضحكون علي وينعتونني بالمجنون

من بعيد …ألمح لافتة كبيرة مكتوب عليها مقهـى، أصل بالقرب من المكان فأعيد قراءة الكلمة، أطلُّ فأشمُّ رائحة القهوة، ينقشع ضباب عيني فأدرك أنني لم أجنّ بعد

أدخل، أرتشف قهوتي بفائض من السكر وقد أحسست بفائض من المرارة يتسلّل إلى حلقي

خلف طاولتي، يجلس شخصان، يصلني صوتهما وهما يتحدثان عن شيخ صحراوي، سائح جاب كل بقاع الدنيا فأقول في نفسي لابد أن هذا الشيخ يعرف مكان الربيع الأول، بإلحاح شديد أسألهما عن عنوان الشيخ بسخاء يتكرّمان بإعطائه لي

أرحل مع أوّل قافلة إلى الصحراء

أجد عاصفة رمليّة في استقبالي، أتكوّر في الرِّمال، أشعت أغبر أصل إلى المكان

قُرب إحدى الواحات المنعشة، تحت ظلال النخيل الباسقات أتعرّف على بيت الشيخ، أطرق الباب فيفتح طفل، أشعر بالسعادة، أسأله عن الشيخ فيقول لي بأنه لفظ أنفاسه الأخيرة منذ لحظات فيشتعل كانون اليأس في جوفي من جديد !

كئيبا تحت نخلة هرمة أجلس، يقترب مني طفل، فيسألني عما يحيّرني أجيبه عن الربيع الأول فترتسم على محيّاه البريء لوائح التيه والضياع ويمرِّر يده على رأسه وكأنه يبحث عن شعره ثم يقول لي :

- سيّدي أنا آسف جدّا لا أعرف مكان الربيع الأوّل لكن يمكن أن أدُلَّك على امرأة تسكن بالجوار يُقال عنها الحكيمة، عارفة بأمور الدين والدنيا وربّما هي تعرف المكان..

يدلُّني على الطريق، أصل إلى البيت وعلى الباب أدق

يُفتح الباب فأشعر بالسعادة، يُرحّب بي فأدخل إلى غرفة خاوية إلا من حصير وجرار ماء أجلس فتدخل على مجلسي امرأة تبعث تقاسيم وجهها في النفس الارتياح وتدل هيئتها على الهيبة والوقار فأدرك أنها المرأة الحكيمة وأقف احتراما لأحييها فتأمر بإحضار عرجون تمر ولبن

أسألها عن الربيع الأول، تصمت صمتا طويلا، فيسكت كل الكلام وأكتفي بانتظار الجواب وبعد تفكير عميق تقول :

- ابحث عنه بنفسك

كدت أشتمها، أقذفها بعرجون التمر المنتصب أمامي، فيكظم كرمها غيظي …وأكتفي بابتلاع الشتّائم وأنا أتمتم :  »يا لها من بلهاء ! تطلب مني أن أبحث عنه بنفسي وتدّعي الحكمة والمعرفة؟!«

يشتعل كانون اليأس في جوفي من جديد، لكني أواصل المسير

أعود إلى المدينة أجرّ ذيول اليأس والخيبة، فأجد عاصفة هوجاء في انتظاري

الأمطار تنهال عليّ بِسياط تجلدني وأواصل المشي لا الرِّيح بصفيرها ولا الرَّعد بدويِّه قادران على منعي من الوصول

أمشي يعترض طريقي قطّاع طرق، لصوص حتى في العواصف يشتغلون ! يسلبون ما تبقّى لي من أموال …من بقايا أوراقفلم يعد جسدي المنهك يقوى على مجابهتهم لكنّي أواصل المشي وأواصل المسير..

دامي الذراعين، عاري السّاقين ، حافي القدمين أستمرّ في المشي

خائِرَ القوى أسقط عجوز تقف عند سقوطي يعود إليها الشباب فتناولني عصاها لأتوكَّأ عليها فأعاود النهوض وأستمر في المشي.. لا توجد قوة في العالم يمكنها أن توقفني أو تمنعني من الوصول..لأنني لا أهزم..

تدعوني العجوز الطيبة إلى بيتها الدّافئ، فتُطعمني وتسقيني وتذكّرني بأمّي ورغم أني رجل أدركت بأنني لازلت صبيًّا يبكي حضن أمه

سألتُ العجوز الشابّة بصوت الشاب الشيخ عن مكان الربيع الأول، فأخبرتني بأنها تجهل مكانه تعرف فقط بأن العارفين به تحفهم السعادة تغمرهم الطمأنينة..

قبل رحيلي أعطتني زادا ونقودا كثيرة ودّعتُ فيها أمي ورحلت

وعقدت العزم على مواصلة المسير …في الطريق، لقيت رجلا أجنبيّا يريد العودة إلى وطنه الأم، فخطر على بالي أنه أكثر علما وأدبا من أبناء وطني فرُحت أسأله عن الربيع لكنه أخبرني بأنه سيدلّني عن المكان إذا أعطيته مبلغا من المال، قبِلت وركبت معه الطائرة وأقلعت معه إلى أرضه

عند وصولنا، طلبت منه أن يفي بوعده لي، لكنّه سخر مني وأضحك الأغراب عني

مشيت على أشواك تلك الأرض عسى أن أجد الربيع الأول وتوقّفت عن المسير عندما جمَّدت الثلوج أوصالي وأدركت أن دمائي تسري في الموطن العربي وعندها بدأت أشعر بقربي من الرّبيع الأول.. أكيد إنه عربي..

لكني كنت أتساءل : »تُرى ماذا تقصد أمي بالربيع الأوّل ؟ ولِماذا أصرّت في وصيتها على أن أبحث عنه وأتبعه ؟... ماذا لو كنت مخطئا ولم يكن الربيع الأول رمزا عظيما؟؟، ماذا لو كان الربيع الأول شيئا ثمينا ؟؟ قد يكون كنزا.. «

أتخبّط في حيرتي فلا أجد من يهدئ من روعي..

أركب السفينة متمنّيا أن أجد في البحر ما لم أجده في البرّ والجوّ …لكنّ رياحا هوجاء بعثرت أطراف السفينة، فحسبت أنني هالك لو لا رحمة الله و لم أكن أعلم أن ركام السفينة الذي تشبّثت به سيعيدني إلى أرضي في ذكرى ميلاد الربيع الأول.. في اليوم الذي في مثله ولد..

لست أدري كم من الوقت بقيتُ غائبا عن الوعي كم من الوقت صُفِّدت أجفاني لكنّ فتلات ذهبية فكّت وِثاقهما فانفرجت عيناي على وسعهماشمس أدفأت أوصالي فذاب الجليد كلّ الجليد وشعرت بالدم يجري في شرياني وسمعت صوت خفقاني

عادت الخضرة إلى أوراقها …وعادت الأوراق إلى أشجارها فتفتّقت الثمرات وانحدرت المياه نقيّةً رقراقة تتهادى في دلالزقزقت العصافير من حولي فهدهدت مشاعري غرّدت البلابل فابتسمت الورود بثغور حمراء مُعلنة ذكرى أول ربيع ..في مثل هذا اليوم ولد الرسول..

أدركت يا أمي أني أبدا لم أكن لأصل إلى الرّبيع الأول دون تصحرِّي مع كثبان الرّمال دون تبعثري مع أوراق الخريف دون تطايري مع أعاصير الرّياح دون تكوّري في كثبان الثلوج دون غرقي في أوحال المياهفأنا، أنا عبد ضعيف كثرت ذنوبه قلّت حسناته زادت غفلته نقصت كياسته كثرت خطاياه قلّت حيلته..!

إنه ربيع الأول..سمي كذلك لارتباع الناس فيه وراحتهم...وأي راحة حملها لنا القدر ؟؟ أي نهار وأي ليل على ضوء القمر؟؟

أي صفاء وأي جمال وأي طهر وأي نقاء في ربيع الأول؟؟

هو شهر مبارك فيه ولد النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، وفيه هاجر إلى المدينة..

سمي بربيع الأول لأن الأرض كانت تفيض فيه بالخصب..وكأن الله أراده رمزا للعطاء للخير، للحب يعزف فيه الكون أعذب موسيقى إيذانا بميلاد الجمال..بموسم الرونق والبهاء..

لقد وجدته يا أمي.. لقد وجدته..

وأدركت أن الربيع الأول الذي تقصدينه هو ربيع يزهر به العمر .. ربيع الروح به يشرق القلب بمولده تتغنى الكائنات، تصدح الحناجر، ربيع حياتنا ربيع دنيانا وربيع آخرتنا ربيع الهدى..

ذاك النور...

ذاك الجمال..

هو ذاك ربيع الأول..