حيرة

حسن الحسين / مغترب سوري في موسكو

[email protected]

"أريد اعتناق الدين الإسلامي.. وأبدل إسمي من إلياس إلى عبدالله.. وأعتكف في المسجد.. وأتفقه في القرآن.. ثم أدعو أصحابي إلى الإسلام".

توصلت إلى هذا القرار بعد أن أطّلعت على بعض آيات القرآن.. ولذا جئت إلى الشيخ عبد الجواد في الحي الذي أسكن فيه وعرضت عليه فكرتي قائلاً:

-      يا شيخ عبد الجواد أريد اعتناق الدين الإسلامي على يديك..

رفع الشيخ حاجبيه.. ثم غرس بؤبؤي عينيه في وجهي.. وراح يتأملني كمحقق يود اكتشاف صدق متهمه... وشهق طويلاً وزفر ملياً.. ثم تنهد وتنحنح.. وهمهم واستعاذ.. ووحد واستغفر.. ودار حولي ووزنني بعينيه.. وتفحص ملامحي وطولي وعرضي كشعبة التجنيد يوم الفرز.. وأخيراً قال:

-      إن الله لم ينعم عليك بأبوين مسلمين..

-      أهي نقمة يا شيخي؟

-      أنا لست شيخك.. فأنت نصراني.

-      ولكني أنوي....

-      النية لا تكفي ما لم تقترن بالفعل.

-      ولهذا جئتك.

-      أريدك أن تفصح لي عن الغاية من وراء اعتناقك الإسلام.

-      قرأت بعض الآيات.. وارتاحت نفسي لها.

-      الإسلام ليس آيات للمطالعة.. إنه دين عبادة وواجبات..وصلاة وصوم.. إذهب وتعمق في ديننا.. وراجع نفسك إن كانت لديك المقدرة على الصمود في الدين قبل أن تعتنقه كي لا ترتد عنه.

أدار لي الشيخ عبد الجواد ظهره  وابتعد عني.. تاركني لصدمة لم أكن مستعداً لها ولم أستوعب كلماته بأن الدين الإسلامي صلاة وعبادة.. فهل المسيحية أو اليهودية مدينة ملاهي؟.. أليست كذلك طقوساً وعبادة وصلوات..

وما الصمود في الدين.. أهي حرب؟ أم تعذيب؟..

أوليست الأديان لخير الإنسان وراحة نفسه وتكافل المجتمع.. ورغد في العيش؟ وهرعت إلى المكتبة الوطنية وسط المدينة.. وجلست برفقة الكتب السماوية أتصفحها لأجد مبتغاي.. ورحت أدون رؤوس أقلام على صفحة بيضاء تصحبني  للدراسة في البيت..

أدمنت تعاطي حبرة الدين حتى شغلتني عن كل أموري الحياتية.. وعرفت بذلك لماذا عاشت الأديان طيلة قرون.. وتغلغلت في خبز الناس ولباسهم  وقيامهم  وقعودهم.. وكدت أدرك سر ديمومتها لولا تدخل صديقي اليهودي الياهو الذي فاجأني بقوله:

-      إنك تتدخل في ملكوت الرب.. والرب طلب منك العبادة.. لا البحث في شؤونه.

وأجبت مبرراً تصرفي وموضحاً نقاء نيتي وصفاء غايتي:

-      لكني أريد..

-      أنت يجب أن لا تريد.. الرب هو الذي يريد وعليك الطاعة والتنفيذ.

-      دعني أشرح لك.. كل ما في القضية...

-      لا تجعل منها قضية.. إن مجرد التساؤل في ملكوت الرب هو شك وريبة في الدين.. وأخشى أن يكون حديثي معك الآن في ذلك ما يلحق بي الذنب.. فأرجوك يا صديقي.. عد إلى رشدك.. واتبع طريق الرب وسر به كما أمر ولا تعد لمثلها فهي بداية الضلال.

عدت إلى تخبطي.. وانغمست أكثر في كتب الله.. ولمست أن الله أوجد لنا الاختيار.. والحرية والإرادة الكاملة.. فكيف أوفق إلى الأصح.. ما دامت كل الأديان صحيحة.

اكتشفت بعد شهور أن اليهودية أول دين سماوي.. لكن أولويته ليست كافية لايلائه الأحقية في الصواب.

توجهت إلى الحاخام اليهودي استطلع منه بعض أمور دينهم.. لكنه ردني على أعقابي قائلاً دون هوادة:

-      هذا دين شعب الله المختار.. ولا مكان للدخلاء فيه.

حملت خيبتي.. وتوشحت بغيظي وعدت أدراجي إلى البيت.. حيث اعتصمت فيه واعتزلت الناس تصاحبني أفكاري المشوشة، وضياعي الذي لا حدود له.. ولم ألجأ إلى الكنيسة لأني أحفظ وصايا القسيس التي كنا نبتلعها منذ طفولتنا كل يوم أحد كوجبة مقدسة يسبقها الجلوس على كرسي الاعتراف.. والإدلاء بما فعلنا وما كنا ننوي أن نفعل ليقوم البابا المقدس بمسح ما في لوحنا من خطايا ومعاصي.. وننطلق لنعيد الكرّة من جديد.. ونعود لغسل ذنوبنا على ذات الكرسي.

رنّ جرس التلفون على غير انتظار.. وجاء صوت انثوي رقيق:

-      ألو.. الياس؟

-      نعم.. من على الخط؟

-      حماتك...

-      حماتي؟؟

-      دعني أكمل .. حماتك تحبك جداً.. فنحن مجتمعون عند جارك لطفي.. وجهّزنا غداء ملوكياً.. فاهبط إلينا في الطابق الرابع.

-      ومن الحضور؟ والمناسبة؟

-      لا تحرق المفاجأة.. وانزل بسرعة.

رميت سماعة الهاتف، وهرولت إليهم.. وكأني أبحث عن طوق نجاة ينتشلني من عبث الأمواج وملوحة التفكير.

وجدتهم جميعاً.. "شلّة الأنس".. زملاء المقاعد الدراسية ، صحبة الأيام الحلوة.. وبعد كثير من العناق والمجاملة والنفاق.. انتشرنا فوق الصحون.. وتسلحنا بالملاعق والشوك.. وأصغينا للأنخاب.

قالت جميلة:

-      اسمحوا لي أن أكون الأولى في فتح موسم الأنخاب، وأدعوكم للشرب في صحة هذه اللمّة التي طال انتظارها.. على ألا تكون الأخيرة.

عبّ كل واحد منا ما في كأسه حتى النهاية.. فقد كنا عطشى لجلسة مثل هذه لا سيما وان فراقنا قد طال، وتغيرت ملامح بعضنا، حتى كدت لا تصدق أنهم هم رفاق الأمس بطيشهم وعبثهم ومرحهم وكسل بعضهم.. وتكلمت الملاعق مع الصحون وتحاورت الكؤوس مع الشفاه.. فكنت تستمع إلى سيمفونية "فتح الشهية" بكل متعة.

وجاء نخب ثان من عادل العاشق المتيم بمدرّسة العلوم الطبيعية:

-      أرجو أن تؤيدوني في رفع نخب صديقنا ومضيفنا لطفي صاحب الفكرة، فربما ما كنا لنجتمع لولا حماسته للملمتنا من خلف طاولات الوظائف والورش والمحلات.. تلك الأعمال التي تستهلكنها بلا رحمة وشربنا.. وانتشينا.. وارتفع مستوى المرح وعلا الضحك.. وتسلل المزاح إلى طاولتنا العامرة فزاد معيار الهرج وانفرجت أسارير بعض المتحفظين منا حتى غدرتني فاطمة بقولها:

-      لنسمع نخب الياس، فهو المحظوظ بيننا.. إذ كان يتسكع ويدخن في المراحيض حين كنا نحن محجوزين في الصف أثناء حصة التربية الدينية..

وضجوا جميعاً بالضحك.. وهتفوا:

-      برافوا فاطمة.. برافو.. كانت دائماً عيناك عليه، ولو لم يكن نصرانياً لكان زوجك المحبوب.

تملّصت فاطمة من الموقف الحرج الذي وقعت فيه بقولها:

-      بالعكس، لو كان زوجي نصرانياً لما تزوج علي مثنى وثلاث ورباع . وخدشني هذا الرد، فقد أعادني إلى ما كنت أنوي الهرب منه..

فترددت في التحدث. لكن إلحاحهم وإصغاءهم دفعني للوقوف وقلت:

-      ان النخب الذي أود رفعه متعلق بإجابتكم على سؤالي.

-      أهو امتحان.. أم حزورة؟

-      لا هذا ولا ذاك.. إنما سؤال من الحياة.

فجأة ساد الصمت.. وعمّ الوجوم، وتعلقت أنظارهم بشفتي، وقرأت الفضول والإنتظار في عيونهم فقلت:

-      نحن نكسب ديننا بالوراثة.. كما أبوينا نكون نحن، فبعد أن تملصنا القابلة من المكان ذاته، تزغرد وتقول ألف مبروك.. فاما يؤذن أحدهم في أذن المولود فيكون مسلماً.. أو يعمّد في الكنيسة فيغدو مسيحياً.. وسؤالي هو التالي: لو كان أحدنا لقيطاً مجهول الأبوين.. فأي دين يختار؟

فغرت الأفواه.. وتناحرت النظرات.. واستراحت الكؤوس على الطاولة, وخيّم صمت أسود.. لقد نزلت عليهم الصاعقة، ولم يجرؤ أحد منهم على الكلام.

قررت أن أخرجهم من موكب الجنازة الذي وقعوا فيه فقلت رافعاً كأسي ومبتسماً:

-      لنشرب نخب والدينا اللذين أراحنا وأعفيانا من الإجابة على السؤال.

بشت الوجوه.. ونهضت الكؤوس. وعزفت الضحكات أنغامها من جديد.

قالت سعاد:

-      كدت تقلبها غماً.. أيها الفيلسوف الوسيم.

فرمقتها فاطمة بنظرة تأنيب.. ورفعت سبابتها نحوها مشيرة إليها:

ـ حاذري التغزل بفتاي.

أكملنا جلستنا حتى المساء.. وافترقنا متفقين على تكرارها قريباً.

 حين عدت إلى غرفتي فرقع في رأسي ذات السؤال:

أي منها الأصح؟ ماذا أختار؟ ماذا أعتنق؟

عدت إلى المربع الأول، لا أستطيع العيش فوق الجمر، أتقلب مثل سيخ شواء.. كلما نضج طرف قلبناه إلى الطرف الآخر.

وفجأة دخلت علي أختي مريم وقالت:

-      العشاء جاهز.

-      لا.. شكراً للرب.. أنا لست جائعاً.

ردت مريم ببرود:

-      نحن جهّزنا العشاء.. فالشكر لنا.. الرب عمره ما كان طباخاً.

 خرجت مريم إلى المطبخ لتناول العشاء مع أمي المؤمنة.. وتركتني مع جوابها الغليظ "الرب لم يكن طباخاً".

إن أختي ليست ملحدة كما تصفها أمي دوماً.. بل غير مهتمة بالدين، فهي لا تنكر وجود الله، لكنها لا تولي العبادات أهمية.. فلا تذهب إلى الكنيسة، ولا تشاركنا دعواتنا على الطعام.. ولا تقرأ الأنجيل.

ولذا خطر لي أن أسألها.. كونها محايدة.. ومطّلعة على الأمور من خلال دراستها للفلسفة.

لحقت بها إلى المطبخ وجلست إلى المائدة مع أسرتي الصغيرة أمي وأبي ومريم التي تكبرني بأربع سنوات وسمير الذي يتهيأ للدخول إلى المدرسة في العام القادم.

قالت مريم:

-      أأسكب لك أم تسكب لنفسك؟

-      لا هذا ولا ذاك.. قلت لك أنني لست جائعاً، ولكني أحببت الجلوس معكم.. والاستئناس بكم.

فقالت أمي:

-      جرّب قليلاً من الطعام.. فأختك أمضت نصف النهار في تحضيره.

-      أعلم ذلك.. ولكني جائع إلى رؤيتكم والتحدث معكم.

فجاء رد مريم الفلسفي الساخر:

-      هذا طبخه سهل جداً.. واقتصادي أيضاً.

نهرها والدي.. وغمزتها أمي كيلا تزيد في السخرية، مشيرة لها بعينيها، إننا إلى طاولة الطعام وأكدت لها:

-      إن الرب يشاركنا جلوسنا  إلى المائدة.. فلا تتمادي في السخرية.

وببرودة قالت مريم:

ظننته يتعشى مع الملائكة.. أه – مستدركة – ونحن كذلك ملائكة.

ولكي لا تغضب أمي مالت إليها مريم وقالت:

-      ألست ملاك أسرتنا يا أماه.

-      لقد أخطأنا حين سميناك "مريم".

-      ولماذا لم تسألاني آنذاك؟ ربما أسعفتكما باسم احلى.

تدخل والدي:

-      دعينا أنا وأمك.. وأطعمي أخاك الياس.. فهو جائع للحديث كما يدّعي.

فعملت مريم بنصيحته والتفتت إلي وسألتني :

-      أيعجبك اسم مريم؟ أم أنت أيضاً لم يستشيروك حين سموني؟

ضحكنا جميعاً.. واسترسلنا في الحديث طيلة فترة العشاء حيث كانت مريم دائماً سريعة البديهة.. حاضرة النكتة.. ولديها ذكاء فلسفي خارق بالإجابة ، والمبادرة في طرح الأسئلة بنفسها.

وعندما تخلى والدانا عن المائدة، تسلّلا ببطء إلى غرفة نومهما، وتثاءب سمير وهرول إلى فراشه..عرضت على مريم مساعدتها في إراحة الطاولة من الأطباق، وتنظيف الصحون والملاعق فقالت:

-      مجاناً؟ أم هناك مقابل تنتظره مني؟

-      إجابة عن سؤال واحد.

-      موافقة.. ولكن لا تسل حتى نغلق صنبور الماء. وتأوي الصحون والأكواب إلى مخادعها.

-      بكل سرور.

أسرعت بكل همتي ونشاطي كي لا يحترق السؤال في داخلي.

وعندما أنهت مريم تجفيف يديها، اقتربت مني قائلة:

-      ماذا ستفعل بالصحون إذا فشلت في الإجابة عن سؤالك؟

-      سأحقد عليها..

-      لا عليك.. هات سؤالك.

جلست أمامها.. ورتبت أفكاري وقلت:

-      الله واحد يا أختاه.. فلماذا الأديان مختلفة ومتناقضة فيما بينها؟

صمتت برهة.. ونظرت إلى الساعة.

كان الوقت قد تأخر، فلم ترغب مريم على ما يبدو في فتح مساجلة يعلم الله متى تنتهي.. لكن عيوني التي كانت ترصد شفتيها.. وتعلقي بردها.. ووقوفي أربعين دقيقة أمام المغسلة أعارك بقايا الدسم العالق في الصحون.. كل هذا لم يترك مجالاً لها للتهرب من الإجابة.. لا سيما وإن اتفاقنا لم يزل ساخناً بعد.. فقالت:

-      هذا السؤال توجهه إلى الله صاحب الأديان.. فهل تعرف مواعيد استقباله للزوار والمراجعين؟

قلت بتضرع لأحثها على الإجابة.. وأسد عليها منافذ الزوغان والهرب من الرد:

-      رجاءً يا مريم.. إني جد جاد في سؤالي.. إني أعاني من القلق والاحباط.

اعتدلت أختي في جلستها، وجعلتها مريحة بعد أن أدركت أني لن أدعها تتملص من الإجابة وقالت:

-      الأديان يا أخي ليست مختلفة.. ولا متناقضة.. إنها جميعها تحمل نفس الملامح وذات الغاية.. وان كان من تباين كما يتراءى لك.. فذلك مرده إلى الزمان والمكان والظروف التي ظهر بها كل دين.

أردت أن أعترض.. لكنها تابعت حديثها قاطعة علي طريق الاحتجاج:

-      كل الأديان تنادي بذات الوصايا النبيلة التي تدعو إلى المحبة والتفاهم والمثل العليا.. وتجنب الشر والموبقات وإيذاء الآخرين.. إن الأديان جاءت لاصلاح المجتمع وتربيته ورقيه.

-      ولكن...

-      مهلاً.. لا تتسرع فأنا أتنبأ بما تريد قوله.. إنك تقصد الصدام والعداء فيما بين الأديان.. إنه غير حقيقي.. وليس زلة من الله، ولا سوء تقدير من أنبيائه.. ولا محض صدفة.. إنما هو آت من وكلاء الله على الأرض من قساوسة ومشايخ وحاخامات.. إنه الفهم المشوش والتفسير النفعي والمتعصب لكل منهم.. وكأن الدين ليس لله.. بل اقطاعية يحاول كل منهم استرشادها على طريقته.

لم أتمالك نفسي أكثر فقاطعتها بقولي:

-      أي دين هو الأصح؟

كل الأديان.. وبنفس الوقت.. لا أحداً منها صحيح.

-      رجاءً يا مريم.. أبعدينا عن الكفر.

-      هذا ما أفعله..

-      كيف؟ وأنت تقولين لا أحداً منها مصيب.

-      لأني لو قلت بأن أحدها صح.. فقد كفرت بالبقية.. ألا ترى كيف يكفر كل رجل دين متعصب الآخر.. ويدعي أنه محق ويهدر وقته وجهده في طمس الآخر.

-      والحل؟

-      الحل لديهم.. في الكلمة البسيطة والطيبة والوحيدة إنها " التسامح."

-      التسامح؟؟

-      نعم يا عزيزي.. أليسوا جميعاً متفقين على الله الواحد.. القابع في السماء ويختزن الجنة والنار.. ويكدس الثواب والعقاب.. ويقود جيشاً من الملائكة لملاقاتنا يوم القيامة. إذن.. فلنعبد هذا المتفق عليه.. ويدع كل منا الآخر.. ولا نزاحم الملائكة في أكل عيشها.. ونبدأ الحساب قبل أوانه.. وننفذ أحكام الآخرة في الدنيا.. أوليست هناك آخرة؟ إن أي محاولة لتكفير الآخر الآن هو شك في وجود الآخرة.

-      إنما القساوسة والمشايخ والحاخامات يدعون ويبشرون.. ويسعون بتقديم الحجج والبراهين من الكتب السماوية.. كل بما أنزل الله عليه ويجهدون ويجتهدون في جمع الدلائل على أن كل واحد منهم هو الصح والوحيد والأمثل.

-      بارك الله فيهم.. ومالغضاضة في ذلك.. أدام الرب عليهم الصحة.. ليفعلوا ما يحلو لهم.. الله يقويهم ويزيدهم.. لا مانع ابداً.. ولكن لا يتحرش بعضهم ببعض.. ولا داع للاتهامات.. واللعنات.. والشتائم.. وتقليل كلّ واحدٍ من قدر الآخر.

بدأت أدوخ من هذه الدوامة.. من هذه الفلسفة التي استقوت على دماغي الطري وعقلي المسكين فندت عني آهة وتساؤل للخلاص:

-      كيف يكون ذلك؟

-      بالتسامح.

-      ومع ذلك.. كيف؟؟

-      الأمر بسيط جداً.. وسأعطيك مثلاً من حياتنا اليومية.. أنظر إلى الإعلانات المتفشية في الجرائد والمجلات.. وعلى أجساد البنايات وأعمدة النور.. بل تأمل غلاظتها على شاشات التلفزيون أيضا .. كل منتوج يباهي بمزاياه.. ويستعرض مؤهلاته وسماته.. قد يكون محقاً وقد يكون منافقاً في إدعاءاته.. ولكن لا أحداً منها يقول عن منتوج الآخر إنه سيء أو فاسد أو مغشوش.. بل لا يجرؤ أن يتعرض له بسوء.

-      والآن قل لي يا الياس.. هل وصلت الفكرة؟

-      - نعم.

-      هل أستطيع الانسحاب والتسلل إلى سريري.. فهو يناديني.

-      طبعاً طبعاً.. ولكن كلمة أخيرة يا أختي العزيزة.. علّ سريري يناديني أنا أيضاً.. فقد خاصمني منذ مدة طويلة.

-      طيب.. ماذا أيضاً؟

-      أي دين أتبع؟

-      اتبع الله.. ودعك من وكلائه.. فالله مغروس في قلوبنا بالفطرة بلا أسمدة ولا وسطاء.. ولا خارطة ولا أدلاء.. وتصبح على خير.