أم الشهيد

حسن الحسين / مغترب سوري في موسكو

[email protected]

كانت أم أشرف النازحة منذ زمن غفلة الأنظمة العربية تجلس عند عتبة الباب، ترفو بنطال ابنها الوحيد الذي عاد من المخبز القديم بعد إنهاء وجبة عمله، وحمل إليها بعض الأرغفة الطرية وقليلاً من الجبنة وورقة صغيرة تحتوي بعض الحناء..

كانت العجوز تجد مشقة كبيرة في زواج الخيط والإبرة، وكثيراً ما كانت تستعين ببعض الأطفال الذين يلعبون أمام بيتها الخشبي، فهي تعلم جيداً كيف حرم ابنها نفسه من بنطال جديد كي يؤمن لها غطاء الصلاة الذي انتظرته طويلاً..

فجأة حجب عنها نور الشمس، ووجدت أمامها أقداما عسكرية، وأسلحة، وبدلات حربية... رفعت رأسها عالياً لتجد ثلاثة شبان ترتسم على وجه أحدهم خطوط شارب حديث النمو، بينما ينتشر الزغب الناعم على وجهي رفيقيه..

تغلغلت ملامح الرعب في أخاديد وجهها، وزحف الذعر إلى مفاصلها الهزيلة وصرخت بكل ما تملك من قوة، وبكل ما بقي في صدرها من حياة:

-  ماذا تريدون؟

علقت عيناها بأفواههم تغتصب جواباً قبل أن تسقط أطرافها من الهلع:

- هنا يسكن المدعو أشرف عبد الكريم، أبوه المتوفي حمدان وأمه سعدية؟!

كادت كلمة "المدعو" تخنقها... فهي سمعتها كثيراً في الدوائر الرسمية، حين كانت تتابع معاملة الوفاة إثر فقدها لزوجها منذ سنين لكنها استجمعت بقايا أنفاسها وسألت:

-  هنا.. هنا.. بربكم ماذا فعل؟

-  لا شيء بعد.. ولكنه سيفعل على مايبدو .. آن له أن يفي دينه لوطنه؟؟

-  يا أولاد الزانية، تكلموا مثل الناس، أنا أمه ولا يمكنني فهم ألغازكم التافهة.
تدخل أحدهم وقد شعر بحرج الموقف، وقرفص بقربها وهمس:

-  ابنك يا خالتي مطلوب لتأدية واجبه الوطني، أعني أنه يجب أن يذهب ستة أشهر للعمل مثل كل الشباب.. فهذه أرضنا وعلينا أن.

وقاطعته بعنف:

- بس.. بس.. اني افهمك، وحاول أن تفهم هؤلاء الحمقى كيف يطلبون من أم أن تهب قلبها إلى تراب الوطن.. سأدخل لأوقظه..

-  لا داعي يا خالة  !! إننا ننتظره حتى ثلاثة أيام..

-  سأدخل الآن، فالواجب لن ينتظر كما تنتظرون..

المطر المتساقط  فوق السقف الخشبي يعزف لحناً رتيباً هادئاً، والريح الشرسة تقتحم ثغرات الباب وتنعق كالبوم، حاملة معها النذير والوعيد، بينما أطراف الشباك تلين مع اتجاه الهواء، فتسمع انيناً حزيناً يشكو صدأها وشيخوختها..

مع صرخة البرق وتثاؤب الشمس وهي تنهض من مخدعها وتحمل في كفها فجراً قارساً، أغلقت أم أشرف باب بيتها وأحكمت المزلاج ثم استدارت نحو معمل اللبن لتبدأ يوم عمل جديد عندما لاح لها الفرسان الثلاثة الذين طلبوا ابنها منذ أربعة أشهر، تهلل وجهها وتسارعت خطواتها نحوهم، غير مبالية بملاءتها التي يتقاذفها الهواء، وتزايد غوص أقدامها في الطين لشدة ضغطها على الأرض وتمتمت في نفسها:

"وأخيراً يصلني جواب منه، آه لشدَّ ما تعطشت لسماع أخباره وتنذرت لرؤيته.."

- أهلاً بالأبطال، أهلاً بأولادي الشجعان، دعوني أقبلكم وألمس رؤوسكم فأنتم تحملون عبق ولدي وترونه..

- أمد الله بعمرك يا خالتي الكريمة، أنت أمنا التي نعتز بعناقها..

 كانت تمطرهم بغزارة قبلاتها، وتتحدى السماء التي تغدقهم بالمطر.

وعاد ذو الشنب المخطوط يقول:

- ابنك يبيض الوجه يا حاجة، لقد نال الوسام الرفيع، لأنه أربك العدو ودمر له الكثير من آلياته وجنوده..

اغرورقت عيناها بالدموع، لكنها تمكنت من كبتها ورفعت رأسها قائلة:

-  حمداً لك يا رب، لم يضع تعبي سدى.. ولم يتغير نبض قلبي رغم بعده عن دفء عيوني..

اختتم الجندي الآخر الحديث:

-  سيأتي اليوم القائد الأعلى ليهنئك بولدك وشجاعته..

جاء المساء بطيئاً وكأن طين الأرض أعاقه في الوصول.. وكانت أم أشرف ببذلتها البيضاء قد طافت أرجاء المخيم، وجمعت كل من تعرفه ومن لا تعرفه.. وهي تنشر الخبر:

-  القائد الأعلى سيأتي اليوم، سيهنئني بولدي، يجب أن تكونوا جميعكم معي، أريدكم بجانبي، لكي يعرف الناس أن ابن المخيم رد الجميل ووفى بالعهد..

لبست أم أشرف "غطاء الصلاة" الذي كان آخر ما حمله لها وليدها المقدام، وكانت قد قررت أن تقول للقائد الأعلى إن هذا الغطاء هو من ابنها الذي يعرفه، هو من تعب يديه التي لطمت أعداء الأرض.

وقفت أم أشرف أمام بيت المتداعي، وأطلقت زغاريدها تغزو زحام الناس.. وطوقت عنق القائد الأعلى، وحملت الحجاب من داخل صدرها واستحلفت القائد أن يعلقه ببذلته كي يحميه من الشدائد، ويبعد عنه المكاره والصعاب..

طأطأ القائد برأسه مرتبكا..

 وبينما كانت أكاليل الزهور تحيط بالبيت الخشبي، بدأت تئن عن بعد آيات من القرآن الكريم، عن الذين قتلوا في سبيل الله ..وحين شعر القائد أنه تغلب على دموعه، وأن صوته قادر على النهوض، انحنى على رأسها الأبيض وقبله بحنان وقال:

-  اقبليني يا أمي أن أكون ابنك، اقبليني أن أكون مكانه، لأنه رحل دون بطاقة عودة، اعذريني يا أمي الكريمة، فلن أستطيع أن آخذ حجابك، لأن أشرف غمس حجابه بدمائه وقال:

-  اعط هذا الحجاب لأمي، اعطها هذا الوسام الذي منحتني إياه، والذي كان قنديلي وسلاحي في بعدي عنها..

جمدت عينا العجوز وهو يضع في كفها حجاب ابنها، كانت تفتح فمها لتقول شيئا ما لكن صوتها خانها.. كانت تجهد أنفاسها لتلفظ :

" إياك.. أياك أن تقول إن ابني... لا.."

لكن ضعفها لم يصمد أمام تكالب الزمن والمقادير عليها.. كل ما استطاعت أن تنفجر به كلمة واحدة:

-  أين هو؟!

-  هناك بعيداً، يجلس في ركن دافئ بجوار ربه..

لاح صندوق خشبي يتهادى على أكتاف الجنود تغطيه الورود والعروق الخضر..برفقة الترتيل الجنائزي لسور الصبر والجنان والموعودة..

  دوت زغرودة الأم عالية، وهي لا تعرف من أين أتتها هذه القوة بعد الاختناق.

واستجمعت غضبها واستدارت نحن القائد ممسكة ببذلته الرمادية، وراحت تهزه بعنف لم يعهده أحد من تلك العجوز الهرمة وصرخت فيه:

-  لماذا تكذب؟! لماذا؟ .. لقد قالوا سيأتي القائد ليهنئك بولدك، فلماذا تعزيني، لماذا تشككني بابني...

والتفتت نحو الناس المسمّرين في أماكنهم لهول ما تراه عيونهم:

-  هذا القائد يكذب.. ابني لم يمت، هذه ليست جنازة، هذا هودج عرسه.

أطلقت أم الشهيد زغرودة أخرى، ولكنها صوحبت بنشيج مكتوم، وأمسكت بالزهور ورمتها بعيداً وصاحت:

-  لماذا تضعون زهوراً بيضاء للعريس، هاتوا زهوراً حمراء.. وإذا لم تجدوا فاغمسوها بدمه كما هذا الحجاب الأحمر..

اجهشت امرأة بالبكاء بعد عناء طويل في كتم صوتها وأنينها، فالتفتت أم أشرف مذعورة وصاحت بها:

-  أخرسي ايتها المجنونة، أخرسي حتى لا يسمعك ابني تبكين، فتختفي ضحكته.. آه.. من ضحكته التي كانت تصابحني وتماسيني، اتبسامة وديعة ورقيقة تنام تحت شارب ناعم خفيف، وتمطرني بالرياحين وتدعوني كي أعيش وأعمر في ظلالها.

انحنت نحو الصندوق لتزيح غطاءه، فسارع الجنود بحملها وابعادها، وتقدم القائد يحمل في يده رزمة من النقود ووساماً ذهبياً وقال:

-  لا تزعجيه يا خالتي، إنه يكلم ربه الآن، وهذا بعض من كثير كي يعينك على الحياة وتفخري بما ربيت وأعطيت..

-  ابعد عني هذه المهزلة .

 صرخت الأم في وجهه، وحدقت عيناها تتفرس في قوله وصاحت:

-  ماذا تعني، هل ستمنعني من رؤية ضحكته؟

-  يا خالتي، إنه بين يدي رب العالمين..

-  ما الذي يعنيه رب العالمين هذا، أنا من أحتاجه، أنا من أعيش برؤيته وأموت على أحرف اسمه..
- سامحيني يا أمي، فلا أستطيع السماح لك..

وانفجرت تصرخ:
- وما دخلك أنت؟ ما دخلكم أنتم كلكم؟ ما دخل رب العالمين هذا؟ بين أم وابنها، أين كنتم حينما كنا معاً، ننام ونأكل ونمرض ونشفى معاً أين كنتم حين كان يفرش لي ضحكته وأنام على دفئها؟!

لماذا تنتصبون كالعمالقة الآن.

تلفتت إلى الناس وراحت تهز الواحد تلو الآخر..
- هل تسمع؟ هل ترى؟ هل تصدق؟ امرأة تهدي الوطن قلبها، وتغرسه في التراب لينبت رياحينا وغاراً وعطاء ، فماذا يفعل هؤلاء الحراس هنا ؟.. لماذا يتواسطون بيننا وبين أنفسنا، لماذا يسمسرون بيننا وبين أرضنا ووطننا.

بإشارة من القائد، كان الجنود يحملون الصندوق الهودج، ويبتعدون، وكانت الأم.. أم العريس قد سقطت في الوحل بثوبها الأبيض بعد أن أضناها الوصول إلى لمس هودج كبدها المسافر.. واختلطت دموعها بدموع السماء، ولاحقت أصواتها الموكب الذي يبتعد عن عينيها كما تغوص الشمس في جوف البحر عند المغيب، ولكن إلى غير رجعة. رفعت رأسها إلى مصدر المطر وناحت:
- هل ترى أيها الشتاء؟ لست وحدك قاسياً.. أنت متهم ظلما، أنت موصوم بتهمة الجحود زورا، لقد قضيت سنين حياتي أجمع الحطب، وأرميه في مواقدهم، وها هم يفركون أيديهم ويهدرون الدفء مصطهجين على هدير اللهب، وحين جئت أطلب شرارة نور صفقوا بوجهي الباب...

هؤلاء الأقزام المتعملقين!!.

زأر رعد قوي، إثر نوبة برق أضاءت للناس المتجمهرين منظر العجوز التي صبغت بياض ثوبها بوحل الأرض.. واتجهت نحو الأعلى مرة أخرى وقالت:

-  وأنت أيها الرب، تبتزنا طيلة عيشنا بمواعيدك، ولا تأتي.. ولا تأتي حتى في أشد الحاجة للمساتك وأنفاسك.. توقد فينا روح السماح والطيبة والإنسانية، ولا تملك في قصورك قطرة شفقة..

سقط الحجاب المغمس بالدم، في بركة الطين.. ونهضت أم الشهيد نحو بيتها تئز في عينيها بؤرة حقد وغضب!!

في الصباح التالي، بينما كانت توصد أم أشرف باب بيتها، وتعلق المفتاح في طرف صدارتها مكان الحجاب العتيق.. ركض إليها جارها منادياً:

-  يا أم البطل.. يا أم أشرف.. هذا هو الحجاب الذي سقط منك البارحة وذاهبة للبحث عنه..

نظرت إليه بإزدراء وشموخ وقالت بتحد وعنفوان:

-  أرسله إلى الشيطان!! إني ذاهبة، إلى عملي في مصنع اللبن!!