تواطؤ

هشام بن الشاوي

[email protected]

يرعبني وفاء هذا الحزن القاتل لقلبي، الطاعن في شيخوخته.

لعلها بدايات فصل الخريف، تجعلني كئيبًا بشكل لا يطاق. حين كنت طفلا، تمنيت أن أكبر بسرعة، وأصير رجلا... قويا، وهاهي ملامحي المتجهمة الشاحبة، تشي بحقدي على هذا العالم الكريه، دون أن تتحقق أمنيتي المستحيلة  باستعادة  زمن البراءة...

كشبح، أمضي بين الأحياء الأموات.  أصطدم بابتسامة عجوز  يومئ بتحية، وهو يقترب مني، دون سابق معرفة بيننا.  ابتسامته ودودة، لكنها تبدو لي مقززة. لم أبادله التحية، بل وجدتني ألعنه في سري، متسائلا : "لماذا يبتسم  كمعتوه؟".

أتخيلني صرت  عجوزًا مثله، وأغمغم: "سأتعذب أكثر إن عشت حتى أرذل العمر.. لا. لا. ربما، يكون  عمري قصيرًا. فمن دون شك،  سيقتلني هذا الحزن". ووجدتني أتأمل جسدي، الذي أكره  وهنه المزمن، برثاء فصيح.

رأفة بعطالتي، استجبت لأختي التي تصغرني بعامين، وفتحت حسابًا بنكيًّا بأقرب مصرف، لاستقبال "صدقاتها" الشهرية لي ولأمي العليلة، بعد أن رفضتُ الهجرة.. لأن لا أحد سيشغل فتى أعرج؛ حتى لو كانت عاهتي مجرد عيب خلقي صغير بساقي اليسرى، يجعل نصفي الأيسر يتمايل مع كل خطوة، بيد أن هذه العاهة جعلتني أهجر فصول الدراسة بسبب سخرية التلاميذ.

أجر خطواتي  المتثاقلة، شبه المترنحة،  ألج البناية الفاخرة، غير عابئ بالحارس المرابط عند البوابة الرخامية، وهو يتسول  بطريقة  حضارية : "عطينا باش نشربو شي قهيوة". (هذه "القهيوة" تصير ارتشاء صريحًا،  حين يطلبها منك موظف بإحدى المؤسسات البيروقراطية).  قاومت رغبتي في أن أصرخ في وجه تلك المتسولة، ذات الجلباب الرث، الجالسة بالقرب من البوابة، مخفية  ملامحها خلف خرقة بالية: "أنا من يستحق الصدقة، بينما دخلك اليومي...".

تعذر سحب تلك الورقة المالية عبر الشباك الآلي. باءت كل محاولاتي بالفشل. في كل مرة، يُطلب مني  تصحيح المبلغ، وهو أقل من المطلوب أتوماتيكيا، فولجت المصرف.

وقفت قبالة الموظف البشوش، انتبهت إلى أن المرأة التي بجانبي جارتنا، رأيتها  تخرج  من حقيبتها اليدوية حزمة من الأوراق المالية، وهي  تعلن بأنها  ستدفعها في الحساب. لم يضايقني - وأنا المفلس- أن أرى كل هذا المبلغ في يد امرأة، لأني أعرف بأنه ليس مالها، مثلما أعرف أن هذه المسترجلة  طلقت زوجها، بعد أن اكتشفت اختلاسه لأموال أخيها المغترب بأمريكا، وهو يشرف على مشاريع صهره.  من حسن حظه أنه تخلص من امرأة عديمة الأنوثة، كانت تكبره بأعوام.

لم تعبأ المرأة التي سبقها أريج عطرها بالطابور، وهي تفتح حافظة نقودها في زهو أنثوي، كأنما تتباهى بعملتها الصعبة، وهي تضعها بيني وبين جارتنا. بصوت خفيض قلت للموظف : "أريد سحب(...)". لم أستطع نطق قيمة المبلغ،  الذي لا يتجاوز  ستة دولارات تقريبًا. اكتفيت بالقول : "إن البطاقة الالكترونية...."، وصمتت.

بعد نقرات، استفسر عن المبلغ المقصود،  رفعت يدي وجلًا صامتًا، في إشارة إلى أن المطلوب خمسون درهمًا. رمقني بنظرة ذات معنى، ناولني بطاقتي الالكترونية، وطلب مني توقيع ورقة الإيصال، ثم طواها وجعل الورقة الخضراء بسرعة،  لإخفائها عن  عيون المرأتين، وقد أشفق لحالي وأحس بورطتي.

أرمق - لثوان معدودات- جملة تتوعد بالعقاب: "كل من حرف أوراق البنك أو زورها....."، دون أن أكمل قراءتها . وجدتني أستحضر الطفل الذي كنته، وأنا أتشمم ورقة مالية برائحتها المميزة. حتى اليوم، مازلت أتشمم الأوراق النقدية خلسة، بعد أن نهرتني أمي، ذات صبا. لم أصارحها بأني أتذكر أبي الراحل، الذي كان يناولني ورقة مالية، وهو يمارس هذا الطقس الطفولي.

أحتمي  بالطفولة البعيدة، لأتذكر إن كانت الديباجة القديمة تعاقب من "حرق"  و "مزق" الأوراق المالية  أيضًا، أتساءل:  "لماذا  حُذف الفعلان؟ هل فطنوا إلى أننا   نعبد المال في هذا الزمن، ولا أحد يمكنه أن يقترف هاتين الحماقتين؟".

اجتزت البوابة، وفوجئت بأصابعي أنجزت المهمة بمهارة فائقة،  وقد طوقتني المرأة التي لا يظهر من وجهها سوى العينين.. بصوت تدرّب على الالتياع. فكرت في أبنائها الثلاثة - أكبرهم بنت في سن المراهقة- الذين جندتهم معها، فاحتكروا التسول بهذه المنطقة، ذات الزبائن المميزين، من رواد البنك، المقهى الفاخر والسوق الممتاز  المجاورين. انتابني إحساس غامض...

 ذات مساء صيفي، والساعة قد شارفت العاشرة، كنت أتجول مع صديق بالقرب من البنك، حاصرتنا ابنتها بتسولها الذليل، صارحتنا بأنها لا تستطيع العودة إلى البيت إلا بعد أن تستوفي مبلغًا محددًا، تجنبًا لعقاب الأم.

ألفيتني أرمي مزق الورقتين في وجه المتسولة الأربعينية،  وبحركة سريعة  من قدمي اليمنى، تطاير في الهواء صحنها البلاستيكي القذر، بقطعه النقدية،  فأحدثت رنينًا لافتًا عند ارتطامها بالأرض.