مفرقعات التغيير
نعمان إسماعيل عبد القادر
إذا كانت نتائج الانتخابات النهائية لم تظهر، لكنّ الأصوات تعالتْ في ذلك المكان الذي توافد إليه الخلقُ من كل حدبٍ وصوبٍ. ليلتئذٍ لم يبالوا بالكرى الذي استحوذ عليهم ولا بالبرد القارس الذي استغشوا ثيابهم الصوفية منه؛ لأنّ دائرة الأرصاد الجويّة تشير منذ أسبوعٍ إلى تمركز منخفض جويٍّ عميقٍ شرقيّ البحر الأبيض المتوسط. والمطر بات منقطعًا منذ مدّة طويلة؛ فصلّى الناس صلاة الاستسقاء وقرأوا الصمديّة على الحصى ثم رموه في بحر يافا كما اعتادوا أن يفعلوا.. ها هي أمواج تسونامي هتافاتِ النصر تضرب جدران أحياء الخاسرين وتجرف معها آمالهم وأحلامهم ثمَّ تغرقها. مصادر أصوات إطلاق رصاص كثيفٍ مزلزلٍ أمستْ كجبهاتِ قتال حقيقيّ في مناطق مختلفة من المدينة الصغيرة. شعلاتٌ ناريّة تبرق وترعد في كلّ اتجاه بدت كأنما تزاحمُ ادلهمام الليل وصمته.. تنطلق فتتبلور كبلورات زاهيةً تسطع وتتفجّرُ شهبًا ليتزيّن بها كبد السماء. تنذر بإشراق فجرٍ جديدٍ مرحبةً بمواكب الوافدين. صوَر المرشحين المتأنقين ببدلاتهم وربطات أعناقهم، المعلّقة على الجدران تبدو مع كل بريقٍ أشبه بأشباحٍ بشريّةٍ اصطفَّتْ وراحتْ تراقبْ عن كثبٍ نتائج التصويت دون أي ملل. صوَر أصبح لا معنى لها فور إغلاق صناديق الاقتراع ولم يعد لها أي اعتبار. أوراق تناثرت في الشوارع تحمل أسماء الأطراف المتنافسة ورموزها، صارت نفايات تتطاير مع هبات رياح الشتاء لتتخذ من زوايا الجدران مرافئ لها فترسو فيها. طُوِيَتْ صفحةٌ وفُتِحت صفحةٌ أخرى. صناديق الاقتراع أُفرغتْ وأُحصيتِ الأوراق بالكامل وسُلّمت النتائج إلى اللجنة المعنيّة العليا والمعيّنة بأمر من وزير الداخليّة. وكانت النتائج الأوليّة تشير إلى فوز المهندس "يحيى عباس" بمقعد رئاسة البلدية ممثلاً عن عائلته، بتحالف ضم ثلاث عائلات صغيرة، تمامًا مثلما أشارت التوقعات التي سبقت يوم الانتخابات. سيطلع يوم جديد بهيج فيه عمّ الفرح ولم يعرف فيه الكثيرون النوم. فيه الغضب من الغادرين الذين باعوا ضمائرهم وشروْا أصواتهم بثمن بخس دراهم معدودة ولا شأن لهم في الصالح العام.. فيه أحزان وفيه الندم.. انزعاج وقلق من مستقبل جديد فيه ينتقم العمدة الجديد من منافسيه. آمال انطفأت من جديد.
حصل على بيانات وتفاصيل أولية عبر هاتفه مع أصدقائه في "مقهى الزّمان" من أولائك الذين احتشدوا وشاهدوا عملية فرز الأصوات عبر النوافذ الخارجية من جميع الصناديق التي وزّعت على جميع المدارس. إلا أن الضرورة جعلته يعود أدراجه إلى منزله.. جلس في غرفته البوهيميّة بعد أن أعدّ القهوة التي أحبّها بنفسه مُرّةً مع قليلٍ من الهيل. أشعل سيجارًا وراح يجمع الأصوات الصحيحة في عملية حسابية دقيقة معقدة ويطرح من مجموع عدد المصوتين، الأصوات الملغية. قبل أن ينتقل إلى عدّ أولائك الذين خانوا عائلاتهم وخرجوا عن قراراتها ومصلحتها الجماعية، وصبّوا أصواتهم في جيوب غيرهم، دقّ سنّه برأس قلمه وارتشف من قهوته قليلاً بتأنٍّ دون أن يباليَ لصوت الرصاص المتقطع وهو يدوّي في الخارج. تذكّر "سحر" وارتسم لنفسه صورة لها وهي تبكي ألمًا على فشل خالها في هذه الانتخابات. وفجأةً تعالت الهتافات وتجدّد إطلاق الرصاص بكثافة وسُمع دويّ انفجاراتٍ قويّةٍ في السماء فقفز من مكانه ملقيًا بقلمه وأوراقه في عجلةٍ جانبًا وهرع نحو الشارع باتجاه ساحة البلدية العامّة التي لا تبعد من مسكنه سوى بضع مئات من الأمتار، وردّد في نفسه وهو يشعر بسعادة الواثق من النصر: "الآن بإمكاني أن أدخل البلدية التي حُرّم علي دخولها منذ عشر سنوات..
حانت منه التفاتة فرأى شبحًا يسير خلفه في هرولةٍ سريعةٍ وينادي عليه مشيرًا له بيده بالتوقف ريثما يسيران معًا نحو البلديّة. سلم عليه وقال لاهثًا بابتهاجٍ:
- هاتفني الآن أخي محمودٌ وأخبرني أنه أُعلنت نتائج التصويت النهائية الرسمية وصار المهندس يحيى رئيسًا للبلدية فاز بفارق ألف وخمسمائة صوتٍ.
- يا للروعة! لقد ولّى العهد البائد يا "سمير". كان عهد ظلم وظلام. لقد نهب البلدية وأغرقها في الديون من غير أن ينفذ مشروعًا واحدًا يفيد المواطنين فأرجع البلدة خمسين عامًا إلى الوراء. هذا إنسان لا يعرف الخجل. يرشح نفسه حتّى يستمر في السلب والنهب.
- ألا تعرف أنه لولا عائلته الكبيرة، وولاء أبنائها، وزمرة المنافقين المنتفعين، وحفنة العملاء المدسوسين الذين وفدوا إلينا من شتّى المناطق لما نجح في انتخابات الدورة السابقة. أما اليوم فقد استيقظ الناس وأرادوا التغيير حقًا تصوّر جشعه وجشع من حوله كيف ألزم البعض على أداء القسم على المصحف الشريف.
- أتعرف يا نبيل! قبل الانتهاء من فرز الأصوات أحسّ مؤيدوه بفشله وراحوا ينسلّون من الشوارع شيئًا فشيئًا ومع نهاية الفرز لم يبق منهم واحد خارج بيته على الإطلاق. لقد التزموا بيوتهم تمامًا مثلما حصل معنا في الدورة السابقة. يا الله ما ألذَّ طعم الفوز وما أسوأ طعم الفشل!
- ماذا حصل مع قائمة "التسامح" يا ترى؟ هل اجتازت نسبة الحسم أم لا؟
- في اعتقادي أنها اجتازت نسبة الحسم لأن الأصوات التي تمّ تمريرها من قائمتنا تكفل لها النجاح حيث أتانا أمرٌ منذ الصباح من مكتب الإحصاء المركزي الذي أقمناه، بإبلاغ المصوّتين الاحتياطيين بأن يقوموا بالتصويت لصالحها.
- وقائمة الرّباط الإسلاميّة؟
- هذه القائمة ستحصل على مقعدين بالتأكيد. إنها المرّة الأولى التي تخوض فيها الانتخابات البلديّة، وقد فضّل زعماؤها عدم الإعلان عن دعم أي من مرشحي الرئاسة وأعطي أبناؤها حريّة اختيار الرجل المناسب، لكن في اعتقادي أن معظمهم صبّوا أصواتهم معنا.
قُطع رأس الشك بسيف اليقين أخيرًا، وأُعلنت نتائج التصويت النهائية بعد أن أدّى المصلّون صلاة الفجر بقليل، إذ طلع الرئيس الجديد ووقف على منصة صغيرة متحركةٍ وراح يخطب بالجماهير المحتشدة قائلاً بصوتٍ مبحوحٍ وقد بدا عليه الإجهاد:
- أيها الناس! هذا الفوز هو فوزكم. كم أنا سعيد أن أرى الفرحة مرسومة على وجوهكم جميعًا.. اعلموا أنكم قد أدّيتم دوركم فقمتم بالتغيير اللازم لمصلحتكم ومصلحة بلدكم ومستقبلكم ومستقبل أبنائكم. منذ اليوم سيكون مكتب الرئيس مفتوحًا أمام الجميع دون استثناء. فمن كان ذا مظلمة سنردّ إليه مظلمته دون تمييز. لقد ولّى عهد التمييز والعنصريّة التي لم ترحم. وليعلم القاصي والداني أن "يحيى عباس" هو رئيس للجميع ولن ينتقم من أحد. منذ اليوم سنشمّر عن سواعدنا ونستثمر طاقاتنا ونبدأ بالعمل الجاد حتّى يعيش المواطن في أمن وطمأنينةٍ وأمان. التعليم وأمن المواطن في سلّم أولوياتنا.. علينا أن نهتم في بناء الإنسان ليصبح مجتمعنا نظيفًا. لقد رفعنا شعار التغيير وسنعمل على التغيير كما وعدناكم ولن أخيِّب رجاءكم أبدًا. سوف تجدونني عند حسن ظنّكم...
صيحات الناس وهتافاتهم المنسجمة مع الخطاب ما زالت تعانق انبلاج الفجر.. رايات الفوز التي يُلوّح بها ما انفكّت تتحدى البرد القارس. زغاريد النساء وأهازيجهن التي يردّدنها في الأعراس لن تنقطع ما دام الشباب يهتفون هتافات النصر. لم يأبه أحدٌ لأوّل قطراتٍ من مطر كانون الأول.. لكنّ اشتداد المطر مزّقهم فشتّت شملهم. منهم من اختبأ تحت مظلات المحال التجاريّة ومنهم من لجأ إلى "مقهى الزمان" القريب الذي لم يغلق أبوابه طوال الليل فاتخذه زبائنه مقرًّا للتحليل والنقاش والرهان على الرابح والخاسر. وآخرون فضّلوا العودة إلى البيت.
هتف نبيل بحماسٍ:
- هذه بركات الفوز. هذا دلالة على رضا الله.
ردّ عليه صاحبه باندفاعٍ:
- يا سبحان الله! كان المطر منقطعًا في ظلّ الفساد وها قد انفتحت أبواب السماء. انتظر الناس هذا الغيث منذ مدّة طويلةٍ..
أجابهم شخص ثالث بامتعاضٍ:
- يا جماعة الخير! ما هذا الوهم؟ ما علاقة المطر بالانتخابات؟ هذا من الظواهر الطبيعيّة، وقد يحدث أن ينحبس المطر لفترة طويلةٍ فتكون سنوات الجفاف أو أن ينزل بكثافةٍ فتأتي سنوات الخير. لا يمكن أن تكون هناك أية صلةٍ بانتخابات البلديّة. لماذا لا تقولا إن السماء تبكي حزنّا على رحيل "عادلٍ" وقدوم "يحيى". إلى متى سنظلُّ نوظّف الأمور ونفسّرها كيفما نشاء ونحمّلها المعاني التي لا تحتملها!!