الامتحان

عبير الطنطاوي

[email protected]

صديقتي تسألني :

ـ كم معدلك في امتحان الثانوية العامة ؟! وهل درستم بعد هذا الخراب الذي أصاب بغداد بعد العدوان الذي شنّه الحلفاء على العراق ؟

ضحكت من قلبي وقلت :

 ـ معدلي 91% والحمد لله بعد انقطاع عن الدراسة مدة شهرين ونصف الشهر أو ثلاثة أشهر .. لا أذكر تماماً .. ولكني أذكر تماماً انقطاع التيار الكهربائي عنا بسبب قصف القوات الجوية لمحطات التوليد الكهربائي والمياه في بغداد .. ورغم الإشاعات التي كانت تحطم أعصابنا .. منها التي تقول : أن شهادتنا لن يعترف بها العالم وأننا على كل حال سنعيد السنة الدراسية ، وأخرى تقول : إن المدارس سوف تؤجل للعام القادم .. ومنها تقول : إننا ندرس فقط لنثبت وجودنا أمام أمريكا الحاقدة وسنعيد السنة لا محالة .. وكل يوم تنوقع صدور قرار وزاري بتأجيل السنة الدراسية ..

 تسألني صديقتي :

 ـ كيف قدمتم الامتحان ؟

 فأجبتها :

 ـ واجهتنا مصاعب ومصائب ، ولذلك سأروي لك حالتي النفسية والمعنوية فيما حدث لي في أحد الامتحانات ...

 خوف .. رعب .. قلق .. جهد .. كل هذا أشعر به وأنا جالسة أمام الكتاب .. أقرأ وأقرأ .. والخوف يملأ قلبي .. الساعة الثامنة مساءً ، وعيني لم تذق طعم النوم منذ يومين .. قرأت مئة وسبعين صفحة ، وبقي لي مئة وخمسون صفحة ، ولم يبق لموعد الامتحان سوى ساعات .. يا إلهي .. من أين يشتري الناس الوقت ؟! إنني لا أنام ولا آكل إلا النزر اليسير من أجل الامتحان .. لا أضحك .. لا أجالس أهلي .. فلماذا يركض الوقت هارباً مني ؟ كيف أمسكه ؟ ومن أين لي أن أحتفظ به ؟ .. عيناي تحرقاني .. جسدي منهك .. رأسي يتصدع .. حتى صوتي اختفى من كثرة القراءة بصوت عالٍ .. وأذناي شاردتان عند الضيوف الذين حضروا فجأة .. أنظر إلى الوقت وأبكي .. لم يبق على موعد الامتحان سوى بضع ساعات ، ولم أدرس سوى نصف المادة ، وأخاف أن تنقطع الكهرباء .. فقد انقطعت نهاراً عدة ساعات متُّ فيها من لهيب شمس بغداد في تموز فماذا أفعل الآن ؟ لا مكيف لا مبردة ولا مروحة ولا نور .. ركضت نحو والدي أستنجد به ودموعي على خدي .. ويداي ترتجفان .. وصوتي مبحوح .. وشعري مشعث ، وقلبي يغلي ، أصيح به باكية :

 ـ بابا أريد أن أؤجل الامتحان .. لم أستطع قراءة المادة التي سأمتحن بها صباح الغد .. وهذا يعني رسوبي .. لا قدر الله ..

 ولكني رأيت والدي ينظر إليّ نظرات رجل ذي تجارب ويضحك ويقول :

 ـ اقرئي ما تيسر لك .. معك الليل بطوله ..

 عدت إلى غرفتي الكئيبة .. إلى فراشي .. أمسك الكتاب وأقرأ مع الترقب والخوف الشديد من انقطاع التيار الكهربائي ، وفي ذهني قاعة الامتحان والأسئلة والطالبات والمدرسات والمعدل .. التفوّق يخنقني .. يخيفني .. ولكني مغرمة به .. أتخيل نفسي في القاعة على مقعدي الخامس قرب النافذة ، وأمامي الأسئلة ، وورائي المدرّسة تنعم النظر فيما أكتب ، وأنا حيرى أمام ورقة الأسئلة ، أتنقل بين هذا السؤال وذاك ولا أجيب ، وينتهي الوقت وأنا لم أجب إلا على سؤال أو اثنين .. ويشتعل رأسي بالحمّى .. وتحترق أعصابي .. وتنفر دموعي .. فقد درسنا أقل من نصف المادة مع المدرّسة والباقي ترك لنا ندرسه وحدنا لضيق الوقت .. فأركض نحو والدتي .. أبكي أمامها :

 ـ لن أحصل على معدلٍ عالٍ ..

 وفجأة يحصل ما خشيت حصوله .. وينقطع التيار الكهربائي .. ويبدأ عويلي .. ماذا أفعل ؟ لا يوجد عندنا سوى شموع تعيسة .. والكتاب لم ينته بين يدي بعد .. تهدّئ والدتي من ثورة أعصابي ، ثم أحضر لي والدي (اللوكس) .. وهو فانوس يضيء بقوة كقوة المصباح الكهربائي ، ولكنه يشع حرارة فظيعة فوق حرارة الجو الأصلية .. فضلاً عن قوته الخارقة في جذب الحشرات خصوصاً الصراصير .. أجلك الله .. جاء به من عند صديقه الذي أشفق على حالي .. أمسكت باللوكس أريد أن أشعله لأكمل ما بقي لي من صفحات كتاب الاقتصاد السياسي ، فهبّت النار في وجهي ، ولولا لطف الله ورحمته لحدثت مصيبة في تلك الليلة الشوهاء .. سارعت بإطفائه .. وعيناي مغرورقتان بالدموع ، والوقت يركض مسرعاً ولا يرحم .. أحسست ساعتها أن الدنيا ضاقت بي على رحبها .. وأن الناس تلاشوا من حولي ، ولم يبق سواي في هذا الكون أعاني وأجتهد .. ركضت نحو غرفتي وأمسكت بالشمعة وأشعلتها وأشعلت أخرى .. وضعتهما أمام كتابي وعاودت الدراسة والحشرات من حولي .. تحوطني .. أحسها تستهزئ بي .. أركض من أجل درجة أعلى .. من أجل كلمة إعجاب أو نظرة احترام ترضي غروري .. جلست أقرأ على الشموع ، كراهبة في معبد مطفأ الأنوار إلا من الشموع .. كعالم في عصر حجري قديم .. أقرأ وأدرس ، ودموعي على خدي .. الرسوب .. كلمة لا تفارق بالي .. مظهري أمام زميلاتي وصديقاتي .. أمام والديّ .. أمام معارفي .. بل أمام مدرّساتي ومديرتي .. كانت صورة الخذلان لا تفارقني أبداً .. الله أكبر .. لقد أذّن الفجر .. الوالدان الحبيبان يغطّان في نوم عميق .. والكون هادئ .. وأنا وحيدة ، أمامي كتابي وشموعي .. والإرهاق ينال مني كل منال ، وأنا جالسة لا حول لي ولا قوة ، ورجلي تشتعل من شدة الحرارة .. ففي ليلة أمسجهزّت فنجاناً من القهوة ، لينبهني ويصرف النعاس عن عيني .. لتنشيط أعصابي ، فانسكبت القهوة على رجلي ويدي وهي مغلية كغلي الحميم في جهنم .. يا لطيف يا رب .. ويزداد همي أضعافاً مضاعفة ، فماذا أفعل ؟ رجلي تحرقني .. جسدي منهك .. رأسي بحاجة إلى الراحة ، وعيناي متعبتان تريدان النوم ، تلحان عليّ أن أنام ، أن أغرق في نوم عميق مريح .. نظرت إلى الساعة ، صديقتي وعدوتي .. إنها الخامسة صباحاً .. لم يبق للامتحان سوى ساعتين ونصف الساعة ، وأجلس في القاعة .. في هاتين الساعتين والنصف مطلوب مني أن أصلي صلاة الفجر ، وأن أكمل ما يزيد عن مئة صفحة وأن أنام قليلاً ولو خمس دقائق ، وأن أتناول فطوري ، وأن أرتدي ملابسي وأركب السيارة مع والدي الحنون (حفظه الله سنداً لي في دنياي وأرجوه في آخرتي) وأصل إلى المدرسة قبل دقائق ، أسأل فيها زميلاتي بعض الأسئلة .. يا إلهي .. متى سأنهي كل هذه الأعمال ؟ أحداث هذا اليوم رهيبة .. عجيبة .. هل أؤجل الامتحان وأخسر بضع درجات عقوبة للتأجيل حسب نظام الدراسة في العراق تلك الأيام ؟ أم أمتحن وأرسب ؟ نظرت إلى الكتاب .. قلبته .. نظرت إلى الفهرس ، وأخيراً كتبوا في آخر صفحة منه : (تمّ بعون الله).

 تمّ عند المؤلف ولم ولن يتمّ عندي .. أخذت أركض بالكتاب .. أقلب الصفحات .. أحفظ المهم وأترك غير المهم بنظري !! والذي مازال راسخاً في بالي بعد .. أنتقل وأنتقل .. وأخيراً أصبحت الساعة السابعة والربع .. الإفطار جاهز .. جلست وكتابي في يدي .. أكلت واللقمة تختلط بدموعي .. ضباب الدنيا كلها في عيني .. والداي الغاليان حفظهما الله يتحدثان .. يهدئان من روعي .. وأنا لا أسمع ولا أرى .. أفكاري رهيبة بتشاؤمها ..

 ركبت مع والدي الغالي السيارة ، وأنا ألحّ في الرجاء عليه أن أؤجل الامتحان .. وأقدمه مع طلبة الإكمال ، ولكنه يرفض وبشدة ..

 دخلت القاعة مهزوزة النفس .. مهزومة من الداخل .. لا أملك من معلومات الكتاب سوى النصف تقريباً .. أسمع كلمات الطالبات تقول :

 ـ (نصف الأسئلة ستكون من آخر الكتاب).

 يا إلهي وأنا لم أقرأ الكتاب بعد المئتي صفحة الأولى .. وأخرى تقول :

 ـ (وصلتني الأسئلة اليوم صباحاً ، والتركيز على الصفحات الخمسين الأخيرة) .

 ويلي ما هذه المصيبة ؟

 دخلت المديرة ومعها ظرف الأسئلة .. وقّعت إحدى التلميذات عليه حسب العرف السائد .. وأخذت المديرة تزيل من الظرف الشمع الأحمر وتفتحه .. قالت :

 ـ قلن بسم الله الرحمن الرحيم .....

 نظرت إليها .. يا ربي .. كيف غاب عن بالي أن معي رباً كريماً .. سميعاً مجيباً .. عليماً بصيراً ؟! كيف غاب عن بالي التوكل على الله ؟! وهل لي غيره ؟ كيف لم أمعن التفكير في كلام والدي وهما يرددان : توكلي على الله يا بنتي ؟! نظرت إلى يدي فوجدتها ترتجف .. استكبرت هذا الأمر على نفسي وعلى يدي .. لمَ أرتجف ؟! لا .. فأنا مسلمة مؤمنة أعمل وأدرس .. وطلب العلم عبادة .. أدرس لكي أخدم ديني .. لأصبح شوكة في حلق الكفار ، في فم اليهود .. لا .. من توكل على الله وجدّ وجد .. قرأت سورة الانشراح .. واستعذت بالله من شر الشيطان الرجيم .. وبدأت المديرة توزع الأسئلة حتى وصلت إليّ .. أمسكت بالورقة .. التهمتها بنظراتي .. بدأت بالسؤال الأول .. وجدته من الصفحات الأولى التي أتقنها بشكل ممتاز .. والسؤال الثاني : الفراغات من الصفحات الأولى والأخيرة التي ركزت عليها .. وهكذا الثالث والرابع والخامس و .. و .. و .. مشيت بالأسئلة ، أجيب وأجيب ، وكل سؤال بنذر ، وكل إجابة بشكر ، حتى قادتني يدي إلى السؤال الأخير ، فاضطررت مرغمة على تركه ، فالمطلوب الإجابة على خمسة أسئلة فقط بفروعها ، ولدينا فرصة ترك سؤال يصعب علينا حله .. سألت : كم بقي من الوقت ؟ فأجابتني إحدى المدرسات : بقي لكنّ ساعة كاملة .. جلست أراجع ما كتبته ، وأمسح كلمة وأكتب أخرى ، وأدقق في المعنى ، وأوضح في التعبير ، حتى سلّمت دفتر الامتحان قبل انتهاء الوقت بربع ساعة .. خرجت من القاعة والدهشة تملأ وجهي ، والحيرة تزغلل عيوني .. سألت زميلاتي عن هذا السؤال وذاك ، وإذا بإجاباتي كلها فوق الرائعة والحمد لله ..

 لماذا كل هذا الخوف ؟! أأخاف ومعي ربي ؟! وهو عليم بحالي ، غنيّ عن سؤالي ؟! أأخاف من امتحان الدنيا .. بل من جزء صغير جداً من امتحانات الدنيا .. ولا أخاف من الآخرة وامتحانها ومن حسابها وجزائها ؟

 عندما حضر والدي الحبيب بسيارته الحبيبة لأنها تحمل أغلى مخلوقات الله بداخلها (والدي) ركضت نحوه سعيدة .. أن : يا بشراك ، أجبت بما أريد ..

 عدت إلى البيت وأساريري منفتحة .. ليس لأني قدمت إجابات ممتازة ، لا .. بل لأني اكتشفت ما لم أستطع أن أكتشفه إلا بالتجربة .. وجدت القرآن أمامي .. حضنته .. قبلته .. وضعته في مكان عالٍ .. وسجدت أمامه لله تعالى .. أشكره على حسن صنيعه ونعمه .. أقدس كتابه العظيم .. من يصدق بعد تعب ليلتين ونصف ، لا نوم ، لا طعام ، ولا دراسة كعادتي الجادة بالدراسة ، ثم أقدم الامتحان بهذا الشكل الرائع !!

 نظرت أمي الغالية إليّ بحذر فوجدت الفرحة تطفح في عيوني .. ابتسمت من الداخل وقالت :

 ـ ألم أقل لك توكلي على الله ؟

 تنفست الصعداء بابتسامة .. ودعوت الله العظيم أن يسهل امتحان الآخرة كما سهل امتحان الدنيا .. إنه مجيب الدعاء ..