نظرات الصمت
عبد القادر كعبان
شاءت الاقدار أن تجمعنا الصدفة باحدى شوارع المدينة الصاخبة. اندفعنا بلهفة العشاق نتصافح. تأملت وجهه بنظرات صامة. الشيب الخفيف الذي غزا شعره زاد من وسامته. لم أكن بحاجة الى المرآة كي اتفحص وجهي الحزين الذي ارتسمت تجاعيد ناعمة حول عينيه. انتابتني رغبة رهيبة بضمه. تذكرت كيف كان يرمقني دائما بصمت قاتل. و كنت اصرخ متذمرة:
-كف عن النظر الي بتلك الطريقة؟
فيتحجج قائلا:
-لكن اخبريني كيف تبدو نظراتي؟
-أوف، كيف سأقول، كما لو أنه يلفها صمت دافئ.
يومها شعرت بنظرات باردة تشع من عينيه برغم مودتها و فرحها بلقائي.
كنا نقف امام بوابة كافيتيريا ״الحياة״، فسألني إن كنت أرغب في مشاركته بشرب فنجان من القهوة. في الواقع بدا وقع تلك الكلمة (اترغبين) غريبا، فهمست لنفسي: أيمكن أنه لا زال..
قبلت دعوته. دخلنا و جلسنا على احدى الطاولات. فاجأني بصوته الملائكي الدافئ المنبعث من الماضي قائلا:
-يا الهي لم تتغيري ! هذه أنت جميلتي !
أسرعت قائلة:
-عشر سنوات.. أكان يجب أن نلتقي صدفة و بعد عشر سنوات.
هز رأسه متأملا العبارة المخيفة: فعلا هي الحياة..عشر سنوات !؟
اخبرني انه تزوج باجنبية و رزق منها بطفلة جميلة، و اسمها ״جميلة״ على اسمي.
فجأة عصف بي شعور بالندم زلزل كياني. قال انه جد سعيد مع زوجته و ابنته. لا أعرف لما شعرت بكلامه ينغرس كسكين في قلبي. قال انه حقق نجاحا كبيرا هناك وراء البحار. تركني للحظات ليعود بكأسين من القهوة. تذكرت حينما تقدم لخطبتي فرفضه والدي المناظل الذي يسكنه حب الوطن لا لشيء سوى أنه انسان طموح فضل ارتداء لباس الغربة ليحسن مستواه المعيشي و لا يضيع فرصة العمر التي طالما حلم بها.
و نحن نرتشف القهوة التي احسست بطعم مرارتها حدتثه عن ما وقع لي بعد انفصالنا. فاجأنا رنين النقال. كانت الأجنبية طبعا. استحضرت بخيالي صورتها، ثم رحت متسائلة:
-أهو فعلا سعيد كما يقول؟ هل تزوجها عن حب؟
ادركت وقتها انني محطمة فعلا لانني خسرته. داهمتني كلماته:
-سعدت فعلا بلقاءك اليوم يا جميلة..
اندفعت دموع حارقة الى عيني عجزت عن اخفاءها. رغبت بالصراخ وسط الكافيتيريا:
أدفع عمري ثمنا ليرجع بنا الزمن عشر سنوات و لكن هي لعبة الحياة..
وقبل ان يسألني عن سبب دموعي، أسرعت أقول:
امنح جميلة نظرة دفء و حنان من نظرات الماضي تلك.
ارتسمت على وجهه ابتسامة ثم مضى و تركني امرأة تتسول دفء الماضي.
