الوفية
عبد القادر كعبان
تقف باكية مضطربة وبيدها منديل لا يفارق يدها المرتجفة. تتجه نحو الإستعلامات لتنهي اجراءات سفرها إلى فرنسا. يتحسس جسدها النحيف بردا راح يسري في أوصالها. منديلها الورقي ماعاد يقاوم سيل دموعها، ترمي به في سلة المهملات لتخرج آخر لتمسح ماتبقى من دموع و أوجاع.
تجلس بانتظار موعد اقلاع الطائرة نحو باريس. تمد يدها المرتجفة إلى حقيبة يدها لتخرج مرآتها، رفيقتها، دفينة أسرارها. تعرض عليها وجهها الطفولي الذي قهرته الآلام و الأحزان. تبحث عن شيء مهم داخل الحقيبة.. إنه إصبع أحمر شفاه، تمرره خلسة على شفتيها اللتان اعتراهما الجفاف و الذبول.
تعود لتحدق في مرآتها و هي تقول في سرها:
-حكاية هذه المرآة حكايتي، و قصتها قصتي، و الفرق بيننا أنني أتكلم بينما رفيقتي خرساء كتومة رغم أنها تعلم حقيقتي كاملة.
تتفاجئ بصوت دافئ يردد:
-على المسافرين إلى باريس بالتوجه إلى البوابة رقم اثنان.
تقف من جديد لتقاتل نفسها المبعثرة بين رغبة تحقيق أحلامها و رهبة في هجرة أهلها و خلانها. تدفع الجثث المتراصة بقربها لتصل إلى البوابة. سيل الذكريات يتزاحم في رأسها لتتذكر ثلاث سنوات عجاف من عمرها دون عمل ودون ذات.
تصعد سلم الطائرة و عيونها مودعة. تجلس في مقعدها ثم تتسلل يدها من جديد إلى حقيبتها لتخرج رفيقتها الخرساء، ثم تخاطبها بصمت رهيب:
-إيه يا رفيقتي، يا مستودع أسراري، كم آنستني في وحدتي، فما خنتي عهدا و ما بحت سرا. كم احتويت آلامي و أحزاني و لازلت كذلك، وكم احتضنت صورة وجهي و تحسست نبض قلبي و فعلا لازلت انت نعم الوفية في صمت.
تتأملها مليا، ثم تدخلها في حقيبتها و تطبق جفنيها مستسلمة لنوم خفيف.