المقامة الطبية
عبد الرحيم صادقي
حدثنا ابن المستضعف قال : شعرتُ بمَغْصٍ شديد في بطني، فتصبَّرتُ لكن بطني آلمتني. فتوجهت إلى مستشفى المدينة، عَلِّيَ ألقى عنايةَ أيدٍ أمينة. وحين ولجت المستشفى، خِلْتُ العالَمين طالِبي شِفا، فكأَنْ لا سليمَ منهم ولا مُعافى. فقلت الحمد لله وكفى، فهذا البادي طفا، والله يعلم السر وأخفى. فعزمت أمري واعترضتُ سبيل ممرضٍ، مُفْرِعِ الطول مُقَوَّسِ الظهر، جرت عليه تصاريف الدهر. بدا ليَ من نسل مخلوق منقرض، تحسب أنْ قد تلبَّسَ به كلُّ مرض. فقلت: يا ممرض إني أشكو ألما في بطني، فأشفقْ لحالي وأسعفني! فقال لي: ادفع المقابل في الشباك، وانتظر دورَك كتلك وذاك. فقلت: أَأَدفعُ قبل أن أُفْحَص؟! ويُقرَصُ جيبي قبل أن أُقرَص؟ وَهَبْ أنْ ليس بي شيء، فما أُخِذَ غنيمة أوفَيْء؟! فردَّ عليَّ لا تكثر الجدال، فأنت مُخيَّرٌ في كل الأحوال، فإما أن تدفع ما عليك من مال، وإما اذهب إلى رجال الطب في الحال. وحينها لن تكفيك كل الأموال. قلتُ: ومَن رجال الطب هؤلاء؟ قال: كرجال الأعمال سواء بسواء. كل شيء عندهم بثمن، تَبَسُّمُ ممرضة يُزيل الحَزَن، وقلبٌ صافٍ كَلَبَن. فذاك طِبُّ الخاصة والأعيان، وذا طِب العامة والقِيان. وكلما أطلتَ عندهم المقام، نهشوا لحمَك وأبْقَوُا العظام. قلتُ أعاذنا الله من شرهم، وكيدهم ومكرهم. فأقنعتُ نفسي بطب المساكين، ولو أُعْمِلَتْ فِيَّ السكاكين. فإما موتٌ أو بُرْء، ولا شفاء بعده رُزْء. فأدَّيتُ وأخذتُ مكاني في البَهْو، وانتظرت حتى ظننت أن الأمر لَهْو، ثم قلت لعله خطأ أو سَهْو. وأضفت ساعة من عندي تَكَرُّما، والصبر أفضل أبداً ودائما.
لكني صبريَ نَفِد، ولكل صبرٍ حَد. وكاد الوجع يرديني، وأنا أخفي أنيني. فما فطنتُ إلا وقد وَكَزْتُ الباب، فألفيتُ الطبيب يرتشفُ قهوة وبيده الرِّطاب، وقد مد رجليه على مكتبه يَنُشُّ الذباب. فارتميت عليه وأخذت بتلابيبِه، وقلتُ يا عدوَّ الله يا سفيه! تركتَني في البهو أعاني، وأنت تأكل الفول السوداني. ثم لَوَيْتُ ذراعَه وقلت قُمْ بِما عليك! وإلا اكتُبْ وصيتك! فتأوَّه وقال: يا هذا إن السكانيرَ مُعَطَّل، ولذلكم فالعمل مؤجل. قلت: أفإذا إذا تَعطَّل السكانير مات الناس، ومُذْ متى كان سكانيركُم يشفي الباس؟ قال: يا رجل لا تأخذ بذراعي، إني في غنى عن الحرب ولا داعي. ثم أمَرَ الممرضَ أن يأخذني إلى غرفة قريبة، تشكو الضيمَ ورائحتُها غريبة. وبعد أن خلعتُ ما عليَّ من قميص، دقَّ الطبيب بأصبعه على ظهري وقال حالُكَ عويص. قلتُ لا بَشَّرَك الله يا راعي، أطبيب أنت أم ناعي؟ ثم قال امْكُثْ مستريحا ولا تشاقِقْ! سأقيسُ ضغطَك بعد دقائق. ثم مضى إلى مخدة يعانق، ومَدَّ رجليه على السرير يزدرد النقانق.
ثم دخل الغرفة رجلان، وأخذا مكانهما يتنهدان. قلت لأحدهما يبدو عليك العياء، فما مرضك وما الداء؟ قال ليس بي داء ولا مرض، ولكني أتحسَّرُ على المصاب الذي عَرَض. فإني جئت بزوجي تشكو آلام المخاض، وهاأنذا مثلها في عَجَل وإيفاض. قلت بُورِكَ لك في المولود، ورُزقتَ بِرَّه والجود. أفأُنثى أم ذكر، وُقِيتَ العَيْنَ وكلَّ شر. قال لا علم لي ولا خبر، فقد أخذوه وقالوا بلا خَفَر، ائتِنا بخيطٍ وقُطْنٍ وسائلٍ أحمر. وزوجي مَغشيٌّ عليها في الحُجرة، فهي بين الصَّحوة والسَّكرة، وقد أرسلوا في طلب الأكسجين بُكرة، وهذا العشيُّ ولمَّا تنقضِ ساعة العُسْرة. قلتُ يا له من مَطْلٍ وعَبث، ما أَبَهَ الطبيبُ أطَبَّ أم حَرَث. آلتي بين أيديهم إنسان، أم يحسبونها بنتَ وَرْدان؟!
فقال الذي على جنبه في حنَق، والله لقد ابتلينا بشر الخلق. فقلتُ صبراً عسى يَصْلُحُ الوضع، قال حتى يرجعَ الدَّرُّ في الضَّرع. قلت سحابةُ صيفٍ عن قليل تَقَشَّع. قال كيف وقد طال الرَّقع؟ قلتُ وراءَك حِمْلٌ ثقيل، وعليك ليل طويل. قال: شكا ولدي ألماً أسفلَ بطنه، فقال الطبيب إنها الزائدة. ثم انتزعها عسى تحصُلُ الفائدة. وبعد أيام قلائل عاودَهُ الألم، كأشدِّ ما يكون السَّقم. فقال الطبيب إنه الفَتْق، ودواءُ الفتق الرَّتق. ولقد جئتُ بالولد على عَجَل، وهو الآن بين طِبٍّ ودَجَل. وأنا كما تراني وأُمَّهُ في الجاروش، وبِنا رُعاشٌ ولا كناقةٍ رَعوش. وارتعادٌ كارتعاد اليعافير، نسأل الله اللطف فيما جرت به المقادير.
قال ابن المستضعف فقلتُ للمرضى وذويهم مُواسيا: عافاكم الله ووقاكم الدَّواهيا. ثم أطلقت ساقَيَّ للريح، وقد نسيت مَغْصي وكُلُومَ فؤاديَ الجريح. وقلت أنجو بنفسي، قبل أن يحفر الجزارون رَمْسي، وينهشوا لحمي ويَمْتَشُّوا عظمي. ولَمَّا صرت بالخارج قبل الحسرة والندامة، قبَّلْتُ الأرض وحمدت الله على السلامة.

