عودة الابتسامة

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

لم يكن الدكتور في كلية الآداب قادراً على إخفاء توقه لمحاضرة الساعة العاشرة صباح السبت والأربعاء ، و لم يكن ذاك الشوق نابعاً من نظافة القاعة التدريسية و لا وجود السبورة الذكية و التكييف المناسب أو أية تسهيلات أخرى بل لأنها تحتضن في جنباتها احد الطلاب النابهين المتوقدين ذكاءً و حيوية. كان (ماهر ) طالباً ألمعياً يثري الجلسة حواراً هادفا و نقاشاً علمياً من خلال سعة اطلاعه في بطون الكتب وتبحره في الشبكة العنكبوتية.

لم يبخل عليه الدكتور بالمدح و الثناء و التشجيع على المزيد من الاطلاع ، أما بقية الطلاب فيكنون له الود و يغبطونه على سعة اطلاعه ، و يحاول بعضهم محاكاته و بذل جهود إضافية لمجاراته في الحوارات.

  قبيل امتحانات المنتصف ظهرت عليه بعض المؤشرات السلبية فقد أخذ يبتعد عن صراحته المعهودة و مرحه المحبب و أصبح يدعي انه يشعر بالصداع و يتهرب من الإجابة عن بعض الأسئلة ، و أصبحت علاقاته الاجتماعية مع زملائه و أصبح يميل إلى الانزواء في الأماكن الخالية و الزوايا البعيدة عن الأنظار. ما أن ظهرت نتائج الاختبارات حتى كان واضحاً تدني تحصيله العلمي إلى المتوسط ، و قد شكل ذلك صدمة لأحبائه و مدرسيه.

-       ما بك يا بني ! إنا لست مسروراً بنتيجتك ، فهذا ليس مستواك الحقيقي، قال الدكتور بنبرة حزينة في جلسة حوار و مصارحة في مكتبه

-        بعض الأسئلة كانت غامضة ، و ربما أسأت تقدير مستواي الحقيقي- أجاب ماهر و كان يصر على عدم النظر مباشرة إلى عين الدكتور مخافة أن يفتضح أمره.

انتهت الجلسة و قد أثارت المزيد من الهواجس بدلاً من أن تقدم إجابات شافية على بعض التساؤلات.

في الأيام التالية خيم السكون على القاعة و انزوى ماهر في صمت مريب. حاول الدكتور بلا كلل البحث في التغيرات السلبية التي طرأت على سلوكات الطالب إلا أنه لم يتلق جوابا شافياً.

بدأ ماهر ينتقل تدريجياً للصفوف الخلفية حتى لا تقع عليه عين المدرس ولا يكون في الواجهة.توقع أن يتلاشى الاهتمام ب هالا أن ذلك كان مدعاة قلق من جميع محبيه فأمطروه بوابل من الأسئلة التي تنم عن المحبة

-       هل يعاني مرضاً مزمناً أو عارضاً  ،أم أن هناك ظروفاً عائلية لا يرغب في اطلاع احد عليها ؟

-       هل يعاني من أزمة مالية خانقة في ظل ارتفاع الرسوم ؟

انهمك الدكتور في البحث بشكل جدي في أسباب انزواء ماهر من خلال التحدث مع عدد من زملائه المدرسين إلا أنه لم يتلق جواباً شافياً.أغاظه بشدة تعليق أحد المدرسين :ربما هجرته محبوبته ؟قالها بأسلوب ساخر لا يليق خطورة الموقف. ظل الدكتور قلقاً و كأن احد أبنائه وقع في المشكلة و اقسم انه لن يغمض له جفن حتى يميط اللثام عن الموضوع و يساعد في إنقاذه.فلا بد لهذا اللغز من حل و لا بد لتلك التحولات الجذرية في شخصيته و أدائه من أسرار.

  في الأسبوع التالي ، و ما أن فتح الدكتور مكتبه ليستريح في ساعاته المكتبية المحددة حتى وقعت عيناه على وريقة تحت الباب...قرأ فيها"عزيزي الدكتور.لاحظت اهتمامك الكبير بقضية الطالب ماهر و هذا مبعث اعتزاز لنا معشر الطلبة أن يجد المدرسون متسعاً في غمرة أشغالهم و أبحاثهم و همومهم الخاصة للالتفات لمشاكل الطلبة.  قد يكون مفيداً أن أخبركم أننا لاحظنا أن ماهر له اتصالات غامضة و مريبة مع أشخاص من خارج الوسط الجامعي و قد لاحظنا تقلباً واضحاً في مزاجه و بروز أعراض انسحابية و أصبح يبتعد عن الاحتكاك مع أصدقائه المخلصين.(المخلص:س.س)

قام الدكتور بزيارة احد أصدقائه العاملين في احد المراكز المتخصصة بمعالجة الإدمان و شرح له القصة كاملة و بين الأعراض التي صاحبت التحولات الكبيرة المقلقة على شخصية الطالب

قلب الطبيب المختص في بعض الكراسات الموجودة أمامه المتعلقة بالإدمان و قال: إننا في بداية الأزمة و هذا يساعدنا في سرعة العلاج و الشفاء التام.

حمد الله انه تصرف في الوقت المناسب ثم قام بإجراءات مرافقة الطالب للمركز بسرية تامة و تعاونت الجامعة بشكل كبير و مضى أسبوعان فقط على جلسات العلاج الناجح و عاد لسيرته الأولى بل كان أكثر نهماً لتعويض ما فات وسط تساؤلات بعضهم عن سر عودة الابتسامة.