الصورة
أحمد يوسف ياسين
تململ أبوصامد ( بالمناسبة هذا اسمه الحركي) في سريره محاولا ان ينقلب على جانبه الأيمن دون جدوى ، شعر بارهاق شديد أثناء محاولات يائسة ليحك ظهره الذي انتشرت عليه مستعمرات الفطريات والطفح وأصبح بحاجة الى استعمال( بخاخ الاوكسجين ) وهو ليس في متناول اليد، لم يبق أمامه الا الدعاء لله أن يأتيه الذي طال انتظاره ويقبض روحه ليستريح ، حتى أنه مل من انتظار( قابض الأرواح) وكان يقول في سره : انه لم يأتني حين كنت أواجه الدبابة ببندقية وطرت في الفضاء عشرة أمتار ممزقا ولم أمت .. ثم يعود يستغفر ربه مئات المرات ويلعن الشيطان الذي يحاول جاهدا أن ينال من صبره...
لا شيء سوى علبة السجائر في متناول اليد، كثيرون نصحوه بترك التدخين بلا فائدة، يدخن كمن سيموت بعد ساعة، ويدخن استعجالا للموت الذي طال انتظاره، ما ان نفث نفثة واحدة من لفافة التبغ حتى هرعت الى صدره سعلة قوية شديدة بالكاد وجدت طريقها للخروج وكادت تأخذ معها عينيه وتفجر الدم فيما تبقى من أوردة في وجهه، ولكنهاــ هذه السعلةــ كانت كفيلة بقدوم امرأة متأففة ضجرة لا تهش الذباب عن وجهها ، تبلّد ت أحاسيسها تنظر اليه بلا مبالاة بعينين تكادان لا تشقان طريقهما بين كتل التجاعيد المتهدلة ، واغلظت شفتاها واخشنّ صوتها ولو سألت جارتها العجوز أم جمال لأجابت بعد تنهد عميق :ــ أيه الله يرحم ايامك يا دلال !! كانت مثل القمر .. وست بيت ومعدّله وكان ما في أحسن من لسانها ... لكن الأيام المرة التي عاشتها بعد ما أصيب أبو صامد بقذيفة الدبابة هي التي قلبت حالها ... هي قليلة قعدة الرجل في البيت جلد على عظم؟؟ الله يجبرها عليه...
المنظر الذي تنظر اليه دلال بلا مبالاة نفسه لا يتغير والطلبات التي يطلبها أبو صامد لا تتغير ولو حاولت دعوتها للصبر لصرخت في وجهك قائلة :ــ الذي يده في الماء ليس كالذي يده في النار..
الحاجة أم جمال أضافت محدثة :ـ كانت أحوالهم المادية جيدة لا ينقصهم شيء .. أبو صامد كان رجلا بمعنى الكلمة .. تصدى للدبابات في الاجتياح ...كم هو صعب يا بني أن يعيش الانسان على صدقات الآخرين ... لو تسمع صراخه في عتمات الليالي لأشفقت عليه وتمنيت له الموت...
:ــ زهقت من الحك والتدهين !! صرخت دلال في وجهه كعادتها .. لم أعد أطيق هذه الحياة .. أخرج ابنك من المدرسة ليحك لك ظهرك ..
الولد في نهاية حياته الدراسية في المدرسة ومتفوق ، لو عدت الى سنين مضت وسألت دلال عن ابنها لقالت بفخر:ـ انه سيدرس الطب في الجامعة وعلى نفقتهم الخاصة فالحال ميسور والوضع المالي للأسرة جيد ، وابنتها صفاء والتي سمتها بهذا الاسم لأن حبها لأبي صامد كان كصفاء الثلج ، فهي تزوجته بعد قصة حب طويلة ، تعرفت اليه بالصدفة أثناء زيارة أقارب لها في مكان أقامة أبي صامد فأحبته من النظرة الاولى ، أحبت فيه رجولته وقوة شخصيته وحماسه الشديد في الدفاع عن بلده المحتل ، ابنتها صفاء تزوجت أول من طرق بابها قاصدا الزواج بدون تكاليف حيث بدا الأمر وكأنهم ارتاحوا من لقمتها ، ولكن في الواقع دلال بينها وبين نفسها تعد نفسها خسرت بزواج ابنتها فقد كانت تخطط لجعلها تعمل في مشغل للخياطة ولو كان ذلك بأجر زهيد فان ( صرارة تعين حجرا)...
:ــ يا رب خذه وخلصني من هذا العذاب !!! توجهت الى ربها بالدعاء ..
:ــ انشالله . أردف أبو صامد موافقا ومؤكدا على دعائها ..وأضاف سائلا :ـ أين البخاخ؟؟
:ــ يا رجل لماذا لم تتق الله فينا؟؟
:ــ ناوليني الريموت وعيرينا سكوتك حتى نسمع الاخبار...
:ــ ما قضى علينا غير الأخبار ريت كل الدنيا تنهد..
على الحائط الذي تسلّخ جلده بفعل الرطوبة وعوامل أخرى واشرأبّت أعناق البؤس والفقر من تكتلات اسمنتية بارزة فيه كأنياب الكلاب المتوحشة كانت صورة علقت بعناية في أول تعليق لها قبل سنين الا أن المسمار تآكل بفعل الصدأ وتضامنا مع الحائط ، لم يستطع هذا المسمار الصمود ـ رغم محاولاته ـ أمام الضربة القاسية التي تلقاها من ( ريموت التلفزيون) عندما رمته دلال على الحائط صارخة شاتمة :ـ يلعن أبو صحابك ...
بين شظايا الزجاج المتبقي على الصورة التي وقعت على الأرض بالكاد تستطيع أن تميز رجلا مفتول العضلات يقف أمام المصور بكل شموخ يحمل بندقية ( كلشنكوف) بيده اليمنى مصوبة الى الأعلى بشكل مائل كتب على كعبها بوضوح ( أبو صامد).......