عذراً زوجي العزيز

عبير الطنطاوي

[email protected]

رفعت (أمل) سماعة الهاتف فجاءها صوت أخت زوجها تقول بلهجة الناصح الأمين :

ـ إسمعي يا أمل أنا أتحدث من الجوال فأنا في عجلة من أمري .. لكني أنصحك أن تجعلي مرض زوجك سبباً في عودته إلى بيته وأولاده وإليك .. أحسني إليه أثبتي محبتك له .. يا الله مع السلامة ..

وأغلقت السماعة .. وبدت ابتسامة حزينة ساخرة على وجه أمل ..

وبعد دقيقة رنّ جرس الجوال .. فتحت الخط فجاءها صوت حماتها ولكنه اليوم على غير عادته .. كانت حماتها عندما تتحدث معها تتحدث بصوتها الجهوري العالي الآمر الناهي الذي لا يحمل في ثناياه إلا القوة والسيطرة واحتقار المتحدث إليه .. أما الآن فهو صوت منكسر مخنوق قالت بلطف ظاهر :

ـ كيفك يا ابنتي وكيف الأولاد ؟ والله اشتقت إليكم ولوالظروف تسمح لكنت أحضرتكم على الغداء اليوم لكن هادي اليوم سيخرج من المشفى وأنتم مشغولون به ..

قالت أمل :

ـ فقط نحن ! وأنتم ! أليس هو ابنكم ! ألم يجلس عندكم كم يوم حتى يستعيد قليلاً من صحته ! أليست هذه عادته عندما يزعل مني أو تصيبه وعكة خفيفة أو يعود من سفره أو من عمله ؟

قالت أم هادي :

ـ والله يا بنتي أحب على قلبي أن يجلس هادي عندي لكني إمرأة كبيرة ولا أقوى على خدمة رجل في الأربعين من عمره صحته ماشاء الله كصحة هادي . معلش يا بنتي كتب الله عليك أن تتحملي مسؤولية زوج هو الآن في أمس الحاجة إليك . الله يعينك على خدمته .

أنهت أمل المكالمة الهاتفية بدبلوماسية ثم قامت إلى غرفتها تنوي عملاً لا رجعة فيه ..

دخلت حجرتها وأخذت تلملم ملابسها وحاجياتها بهدوء .. لحظت ابنتها بنت الربيع الخامس عشر ما تفعله الأم .. ركضت نحو الأم وقالت :

ـ ماذا تفعلين يا أمي ؟

قالت أمل :

ـ مغادرة ..

قالت الصبية :

ـ إلى أين ووالدي بعد ساعة سيخرج إلى البيت .

قالت بثقة :

ـ أهلاً به في بيته الذي ما شعرت يوماً أنه بيتي .. هناك الكثير من يجب عليهم خدمته أكثر مني .. هناك أمه وأخواته وإخوته الذين كان يجلس معهم بالساعات ويضحك معهم ملأ الأشداق وأنا الشابة التي بحاجة إلى من يحادثني ويسامرني جالسة وحيدة تنهش الغيرة قلبي وتدمر الوحدة كل أثر لمحبته في نفسي .. هناك رفاقه الذين كان يتركني وأنا في أبهى زينتي ليجاملهم ويسعدهم بمجلسه ليعود إلي في آخر الليل تعبان يخلق لي الحجج كي تقوم مشكلة بيننا وينام ويعاقبني بعدها بحرماني من زيارة أهلي أو أختي أو.. أو.. آلآن صار علي أن أجالسه وأخدمه ! بعد أن ولى شبابه بين الناس ولم يبق لي منه إلا المرض والهرم !! أكثر من عشرين عاماً وأنا أقول غداً يتحسن غداً يشعر وهذا الغد لم يأتِ ولن يأتِ ..

بكت الصبية بكل ما فيها من دموع .. وغادرت الحجرة ..

جلست أمل وأخذت تفكر في أولادها :

ـ ماذ ذنب هؤلاء الصغار ؟

فحادثها نفسها :

ـ سنون الشباب ذهبت من أجل كلمتك ما ذنبهم ؟ ذنبهم أن والدهم ظالم قاسي ..

قالت بصوت باكٍ مسموع:

ـ يجب أن أعاقبه .. آن وقت الانتقام .. سأنتقم لشبابي الضائع .. سأنتقم لسنين عمري التي ولت هباء .. سأنتقم لمستقبلي العلمي الذي حرمني منه بحجة الغيرة .. سأنتقم لوالدي الحنون الذي كثيراً ما أبكى عيناه الحنونة .. سأنتقم لأمي المسكينة التي كثيراً ما مرضت عندما تسمع مشاكلي معه .. سأنتقم لأولادي الذين حرمهم متعة الرحلات والراحة النفسية مع أب رحيم .. سأنتقم لأخوتي وأخواتي الذين قطعني عنهم .. حان وقت الانتقام ..

وفجأة فتح باب حجرتها ودخل هادي بكرسيه المتحرك إلى الحجرة وعيناه تكادان تنفجران غضباً .. قال لها :

ـ لقد عدت يا أمل وآن لك أن تنتقمي كما تحبين .. وأنا تحت أمرك وأخي في الخارج ينتظر أن يوصلك لبيت أهلك ..

مسحت أمل دموعها الرقيقة وقالت بلطفها وحنانها المعتاد :

ـ عذراً يا زوجي العزيز .. ما رباني والدي على ترك الضعيف والتجبر على المسكين .. أنت الآن بحاجة إلي ولن أدعك أبداً .. ما خلقني المولى لأنتقم بل خلقني أماً لكل الناس وأنا في خدمتك ..

قال بندم :

ـ كنت دائماً أقول لك أنك لا ترين الأخطاء جيداً فعلاً فأنت خلقت لتري محاسن الأمور فحسن الله الدنيا في وجهك أما أنا فقد خلقت لأرى العيوب فقط صغيرها قبل كبيرها فأذاقني المولى طعم العيوب الكبيرة قبل الصغيرة .