ابتسامة ... وسلام

منى محمد العمد

[email protected]

في طريق أعد للمشاة , اصطفت على جانبيه أشجار السرو الخضراء , وفي يوم اعتدل جوه ورق نسيمه , خرجت مع أحدى زميلاتي في الجامعة نمتع أنظارنا بهذا الجو الرائع ونتجاذب أطراف حديث لا ينتهي , وبينا نحن كذلك إذ تقابلنا مع فتاتين أخريين خرجتا لمثل ما خرجنا له , وإذ التقت عيني بعيني إحداهما , ابتسمت بديهة وقلت : السلام عليكم , نظرت إلي ولم تجب بشيء , واستمرت كل منا في طريقها , لكنها ما لبثت أن لحقت بنا وسألت : عندما سلمت فبل قليل , هل كنت تقصدينني بالسلام ؟

 قلت : نعم .

 قالت : هل تعرفينني من قبل ؟

 قلت : لا .

 قالت : فلماذا سلمت إذا ؟

 قلت : وماذا يمنع ؟ و أضفت : ثم إن رسولنا صلى الله عليه وسام أمرنا بإلقاء السلام على من عرفنا ومن لم نعرف .

 . قالت وهي تهز رأسها إعجابا : شيء جميل حقا , وأضافت متسائلة : وهل أمركم كذلك بالتبسم في وجهي ؟ رابني قولها ( أمركم ) , فسألتها : ألست مسلمة ؟ ( فلم يكن في مظهرها ما يدل على إسلامها ) .

 قالت : أنا مسلمة والحمد لله , ....

 قلت : كما أمرنا بكل فضيلة أمرنا بالتبسم فقال :(( تبسمك في وجه أخيك صدقة )).

 قالت ضاحكة : تتصدقين علي بالتبسم طمعا في أجر الصدقة إذن فليست ابتسامتك من القلب .

 قلت باسمة : ومن قال بأنها ليست من القلب ؟ لو لم تكن متصلة بالقلب ونابعة منه لما وقعت منك موقع القلب , ثم إن الأمر بالتبسم يوافق الفطرة , وكثيرة هي الأسباب التي تربط بيننا , الدين واللغة والمرحلة العمرية والدراسة في جامعة واحدة فلماذا لا نبتسم ونتعارف حين نلتقي , ألا تذكرين قول إيليا أبو ماضي الذي مر بنا في المرحلة الإعدادية :

أتراك تغنم بالتبرم درهما = = أم أنت تخسر بالبشاشة مغنما

همت بمتابعة طريقها لكنها عادت فقالت : هل تسمحان لنا أن نمشي معكما ؟

 قلنا : بكل سرور , وحياكما الله .

 قالت صاحبتي : أنتما مختلفتان عن بقية طالبات كلية الشريعة .

 قلت : في أي شيء نختلف وأشرت إلى عدد كبير من الطالبات وتساءلت : مالفرق بيننا وبينهن ؟

 قالت بعفوية : إذا نظرن إليّ تشيح إحداهن بوجهها عني بترفع واشمئزاز , أما أنتما فطيبتان , ابتسمتما في وجهي حتى وأنتما لا تعرفاني ، ذلك مع أني ـ ونظرت إلى لباسها متابعة ـ : لا ألبس الحجاب الشرعي .

 قلت : ما أرسلنا الله تعالى قضاة نحكم على الناس , إنما نحن دعاة , نقول الخير ما استطعنا ونسأل الله السلامة .

 قالت : كلامك مريح , وأنا والله بالرغم مما ترينه مني ـ وأعادت النظر إلى ملابسها بشيء من الحرج هذه المرة ـ وتابعت : والله إني أحب الله ورسوله وأحب الدين , حتى أني أمتنع عن نمص حاجبي لأن النمص حرام ، سمعت حديثا فيه لعن النامصة الست على صواب ؟

 قلت وأنا أحاول غض طرفي عن لباسها الذي يكشف نحرها وذراعيها وساقيها كما أحاول إخفاء تعجبي من المقارنة بين ماتقول وتفعل , قلت : نعم لقد حرم الله تعالى النمص ولعن الرسول صلى الله عليه وسلم النامصة والمتنمصة في حديثه وجميل منك جدا أن تلتزمي بذلك ولكن .. وابتسمت في وجهها مضيفة : لكن يا عزيزتي ، الم ينه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عن كشف هذه المفاتن منك ، وأخذت أشير بتودد إلى ذراعيها .

قالت : هل تظنين أني فتاة فاسقة ؟ لا أخلاق عندي ؟ قلت : معاذ الله , بل أظن خيرا بجميع المسلمات كما أظن بنفسي .

قالت : الطالبات المحجبات ينظرن إليُ نظرات فيها اتهام بالسقوط وربما الفجور .

قلت : يا أختاه لا تدعي هؤلاء الفتيات يحلن بينك و بين الله تعالى , فلا أنا و لا هن يملك لك أو لأنفسنا ضرا ولا نفعا , بل أنت من يملك أن يختار لنفسه و الأمر إليك أنت .

قالت : هذا كلام جميل أسمعه لأول مرة , إنه منطقي جدا . ولكن دعيني أسألك سؤالا يحيرني , قلت ضاحكة : لك إن تسألي ما شئت , وأنا لي أن لا أجيب . فلست فقيهة ولا عالمة ( وكنت لا أزال طالبة في السنة الثانية ذلك الوقت ) قالت : علمت أن التفكير بالذات الإلهية أمر محرم , فلماذا هو محرم هل يحجر الإسلام على العقل؟

قلت بل الإسلام هو الذي دعا للتفكير حتى لقد جعل التفكر في خلق الله خيرا من صلاة التطوع و جعل للعالم فضلا على العابد . لكن الذي أعلمه أن الذات الإلهية خارج المساحة التي يمكن للعقل أن يعمل بها ؟ فالمسألة محسومة , العقل لا يمكنه الإحاطة بالذات الإلهية , ثم أليس الله تعالى هو الذي خلق العقل وهو الذي قدر قدراته ؟ فإذا حرم علينا دخول دائرة معينة فهو يعلم أن العقل أعجز من الإحاطة بها.

قالت : كلام منطقي و لكنه غير مقنع بالنسبة لي , فأنا أريد أن أفكر , لماذا أمنع من مجرد التفكير؟

قلت ما رأيك أن أصحبك إلى من يجيبك ؟

رحبت بالفكرة و مضينا معا إلى أحد أساتذة الكلية و قدمتها له ثم تركت لها الحديث , طرحت عليه سؤالها بجرأة وأدب , فسكت مليا ثم قال : منذ أن خلق الله الخلق و المفكرون و الفلاسفة يفكرون في الذات الإلهية , أليس كذالك ؟

 قالت : بلى .

قال : فإلى أي شيء توصلوا ؟

قالت : لم يتوصلوا إلى شيء ,

قال : ففيم إذا نضيع أوقاتنا و عقولنا و نحن نعلم أن المسألة محسومة , أرأيت لو أخذت خمسة دنانير ورقية و قمت بإحراقها أمامك , ماذا تقولين فيّ ؟

سكتت باستحياء .

قال : ألن تقولي بأني مجنون ؟

قالت في حرج ظاهر : بلى .

قال : فإذا كان من يحرق خمسة دنانير من ماله يتهم بالجنون فكيف بمن يهدر وقته وعقله بل عمره فيما لا فائدة منه ؟

يدا عليها الاقتناع بما قال . ثم أثنى الدكتور عليها فقال لها : يبدو أن لديك عقلا مستنيرا و فكرا إيجابيا , ما أجمل أن تكمليه بجلباب شرعي فيتفق مخبرك ومظهرك ! لمعت عيناها , ووعدت خيرا . شكرنا أستاذنا وخرجنا . مشينا قليلا وهي مطرقة كمن يحدث نفسه , و آثرت أنا و زميلتي أن نلوذ بالصمت حتى تنتهي من حوارها مع نفسها , ثم رفعت رأسها فجأة وقالت : أريد أن أشتري الحجاب الآن فهل ترافقانني ؟

وفي سعادة غامرة مضينا معا إلى المركز الإسلامي و كان قريبا نسبيا من موقع الكلية وكنا على معرفة سابقة بمديرة المركز و حكينا لها الحكاية باختصار , قالت صاحبتنا بعد أن اختارت جلبابا وخمارا في حماس ظاهر : لكن المبلغ الذي معي لا يغطي ثمن الجلباب فهل تنظروني إلى غد , فقالت مديرة المركز : يل نقدم لك الجلباب والخمار هدية من المركز تعبيرا عن سعادتنا بعودتك وأخذت تصافحها مهنئة ثم أقبلت هي علينا تصافحنا بامتنان و دموع الفرح تملأ عينيها .

وخرجنا محجبات ثلاث بعد أن كنا محجبتين وسافرة , كان قد حجبها عن الإقبال على الله نفور بعض الملتزمات منها , و افتراضهن سلفا الشر فيها , مع أن الخير متأصل في نفسها , كان فقط مغطى بطبقة من الشر رقيقة , كان يكفي لإزالتها مجرد ابتسامة , ابتسامة و سلام . . .