لِعُيُونِ الأسير
قصص أقصر من القصيرة (23)
كانوا يتسامرون ليخفِّفوا عن أنفسهم وَطأةَ العزلة، ويتحاورون، ويحلمون بالانفكاكِ من هذا الأسْر الذي يستمرّ منذ تسع سنوات، فهم في هذا المعتَقَل المظلم الضيّق يعانونَ من عذابٍ نفسيٍّ، على الرغم من أن الذين أسروهم، سمحوا لهم بحرية الدراسة والتقدّم للامتحانات، ثم لنيل الشهادة الجامعية.. قال (سمير):
- كنا نظنّ أنّ قومنا قد نسوا قضيتنا، منذ أن اختطَفَنا اليهودُ، داخل وطننا وأرضنا!.. لكنّ قيام قوات الحزب بأسْر بعض جنود العدو الصهيونيّ.. سيضع حداً لاحتجازنا، سيتم تبادل الأسرى.. أكيد!..
- والله يا أخي لا أعلم ما الذي يدور خارج هذه الجدران!.. (قالها وحيد).. فتدخّل (عمر) قائلاً:
- ستكون نهايتنا في هذا المعتَقَل السيّء، ولو كان أمرنا يهمّهم، لما تجاهلوا قضيّتنا طوال هذه السنين!..
وضع (سمير) سبّابته اليمنى على شفتيه، محذّراً رفيقَيْه من التكلم، فيما أشار بيده اليسرى إلى جهة الباب الحديديّ، محذّراً من قدوم الحارس!.. ضرب الجنديُّ البابَ بيده مُحدِثاً بعضَ الضوضاء، ثم دفعه قائلاً بصوتٍ حاد:
- سمير.. جهِّز نفسك، ستذهب مع لجنة الأسرى التابعة للأمم المتحدة، سيرافقونكَ إلى بيروت، فقد أصبحتَ حُرَّاً، وستعود إلى قريتك!..
قفز الشبّان الثلاثة فرحين، وتعانقوا مبتهجين.. ثم ودّعهم (سمير) حزيناً، وخرج برفقة اللجنة الأممية!..
في السيارة الأممية، تذكّر (سمير) بلدتَه الجميلة، وأشجارَ البرتقال، والمروجَ الخضراء، وجلساتِ السَّمَر مع أهله عند شاطئ البحر.. تذكّر أمَه وزوجتَه وأباه وطفليه اللذَيْن أصبحا شابَّيْن.. تذكّر أصحابَه (نبيل وشجاع ورعد ومهيب).. تذكّر عناقيدَ العنب المتدلّية من (الدالية) في مدخل بيته الهادئ الجميل.. كانت لحظاتٍ حالمةً جميلةً قبل أن تقف السيارة ويُطلَبَ من سميرٍ النزول.. مع تحيةٍ وابتسامةٍ من أحد المرافقين الأمميّين!..
- أهذه بيروت؟!.. لماذا هي مدمَّرة إلى هذه الدرجة؟!.. (سمير يحدّث نفسه).. ثم يتابع:
- أين أمي وأبي وإخوتي، وزوجتي، وأفراد أسرتي؟!.. هل من المعقول ألا يخبرهم المسؤولون؟!.. ألم يخبروهم عن تحريري من الأسْر؟!.. لو فعلوا لكانوا الآن جميعاً هنا في استقبالي!..
تلفّت حوله مندهشاً، ناظراً إلى رجلٍ قادمٍ من بعيد، على رأسه عمامة سوداء.. قال الرجل بلغةٍ عربيةٍ مُكَسَّرة:
- أهلاً بك، أهلاً، إسمي (شيرازي)، أرسلوني لاستقبالك، ألستَ أنت سمير الأسير؟!..
- نعم، أنا سمير الذي كنتُ أسيراً.. كنتُ أتوقع أن يكون أهلي هنا في استقبالي.. وأن تكون بيروت عامرةً وأجمل مما أراه من تدميرٍ وأطلال!..
- شيرازي: آسف أن أخبرَك أنّ أهلك كلهم، راحوا ضحايا القصف الانتقاميّ الغادر.. لا تحزن، لقد قُتِلَ الآلاف من اللبنانيين، لكننا حرّرناكم من الأسْر!.. ولا تيأس، فلبنان سنعمّره كله.. سنعمّر بيروت مثلما عمّرتموها خلال السنوات العشرين الماضية.. سنعمّر بيتكَ أيضاً.. الحمد لله على سلامتكم!..
وسوم: العدد 746