والعود أحمد

عبير الطنطاوي

[email protected]

يبدو أنها تعاني من أشد الصراعات واللكمات الفكرية والشعورية المتصادمة . كانت تفكر : ألهذا الحد من الانحطاط العقلي والنفسي والفكري يمكن أن أصل ؟ أإلى هذا الحد من الضياع والمتاهة في خضم تيار الحياة المتلاطم ؟

دموعها كانت سيلاً يجرف ذنوب الدنيا ليغفرها .

بدأت قصتها التي أوصلتها إلى هذه الزاوية المعتمة من الحياة ، بعد أن كانت مثالاً للفتاة المرحة التي تقلد حركات الممثلات باستهزاء ، وتشبّه أصوات المغنين بأصوات الحيوانات ، فهذه تموء ، وهذا يعوي ، وذلك ينبح أو ينهق .. و (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) ..

  كانت مثالاً للفتاة المؤدبة التي كان حلمها أن تصل إلى مرحلة من الحياة تمكّنها من لباس الحجاب بحرية ، ودون معارضة من أحد ، وكانت مثالاً للشرف والعفّة والأخلاق العالية ، أم الآن فقد ابتعدت عنها وابتعدت عنها أخواتها ، وتركتها صويحباتها ... كانت إحدى أربع فتيات يسكنّ في حي واحد ، وفي مدرسة واحدة ، وصفّ واحد وكانت تعيش حياتها كأي فتاة في المرحلة الثانوية مع صديقاتها الثلاث ، إلى أن بدأت أفكار جديدة تغزو عقول هؤلاء المقبلات على الحياة .. أفكار تدور حول حرية المرأة ومساواتها بالرجل ، وإن حقوق المرأة ليست بأقل من حقوق الرجل . ولكن في أي شيء ؟ .. في تبادل النظرات واللقاءات والهمسات والضحكات وما إلى ذلك من ألوان الغرام و(الحب) على الطريقة الغربية البويهيمية .. كما أن للمرأة الحق في استخدام جمالها ، وتكسّرها ، وميوعتها في إغواء الرجال .. تلعب بعقولهم كما يحلو لها اللعب .

  بدأت هذه الأفكار تتسرب إلى عقلها وقلبها ، كما يتسرب المرض الخبيث إلى الجسد السليم ، وبدأت تنفش شعرها ، وتلبس التنورة الضيقة القصيرة والمفتوحة ، والبلوزة التي تكشف عن السّرة ، والحزام العريض ، والإكسسوارات اللافتة للنظر ، ومن ثم نظرت فابتسمت ، ثم سلمت وتكلمت ، ثم أعطت موعداً ورقم هاتف ، وبدأت القصة التي نسجت الأفكار الخاطئة خيوط بدايتها .. الأفكار الكاذبة المصبوغة بالألوان الزاهية التي تبهر عيون من في مثل عمرها .. وظلّت علاقتها مع ذلك الشيطان في الظلام الدامس دون علم أهلها الذين كانوا غافلين عن التغيرات في حياتها ، الواثقين بها وبحسن تصرفها وسلوكها ، إلى أن وقع الفأس بالرأس كما يقولون ..

  لقد تعرفت إلى شاب مستهتر ، كان صنو الشيطان في تفكيره وسلوكه .. طلب منها ما يطلبه الفارغون التافهون ، وتمنعت الفتاة بما لديها من مخزون أخلاقي .. ولكن الشيطان لم ييأس من الإيقاع بفريسته .. فقد كان هو الآخر يوسوس لها ، ويدعوها إلى الاستجابة (لحبيبها) ووقعت الحمامة في فخ الصياد .. وبكل لؤم راح الصياد يبتز فريسته .. يهددها بالرسائل التي أرسلتها إليه ، وبالصور التي تصورتها معه ، حاولت أن توقظ ضميره .. ذكرته بأخواته ، خوّفته من الله المنتقم الجبار ، ولكن دون جدوى ، فإما أن تستسلم له ، وإما أن تعطيه ما يريد من مال أو متاع تسرقه من بيت أهلها ، وإما أن يفضحها على رؤوس الأشهاد .. قال لها :

  ـ سأرسل نسخاً من كل رسائلك وصورك إلى أبيك وإخوتك وإلى معلماتك وجيرانك وأقربائك ..

  بكت ، توسلت ، انكبت على قدميه ، ولكنه ركلها وأمهلها ثلاثة أيام وإلا ..

  في جوف الليل قامت وتوضأت وصلت بضع ركعات ، ثم ابتهلت إلى الله القادر على كل شيء أن يصرف عنها السوء ، ويخلصها من ذلك الشيطان الخبيث :

  (يا رب .. إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على ذلك الشيطان الرجيم .. يا رب .. أنت رب المستضعفين وأنت ربي ..

  أسألك بأسمائك الحسنى أن تنقذني من براثن ذلك الأثيم ، وأن ترشدني إلى السلوك المستقيم ، وإلى الرأي السديد .. كيف أتصرف يا ربي مع ذلك المجرم ؟..)

  وفيما كانت الصبية غارقة بدموعها وآهاتها ودعواتها ، كانت أمها تصغي إليها بقلب متقطع ..

وانتبهت الصبية إلى أمها ، فأسرعت تختبئ في حضنها ، وتقص عليها قصتها مع ذلك الشيطان المريد ..

  هدأت الأم الرصينة من روع ابنتها وقالت :

  ـ لا عليك يا بنيتي ، لقد استجاب الله لدعائك ، وفرح بتوبتك ، أما ذلك الشاب اللئيم فدعيه لي .. دعيه ولا تخافي ، فقد فهمت كل شيء ..