منير الطفل اليتيم
منير الطفل اليتيم
تحسين أبو عاصي
– غزة فلسطين –
ماتت أمه في مرض نفاثها وهو في الساعات الأولى من عمره ، وتزوج أبوه من امرأة ظالمة لا تعرف الرحمة إلى قلبها سبيلا ، فعاش طفلا يتيم الأم ، كما عاش يتيم الأب على الرغم من أن أباه لازال حيا لم يمت .
بلغ اليتيم منير الرابعة من عمره ؛ ليمضي أربع سنوات حافلات بالكراهية ، والحقد والقمع والقهر، لبراءة طفولته المعذبة .
مسكين ذلك الطفل البريء ، الذي حرمه القدر حضن أمه ولبنها الحنون ، كانت كل معالم الظلم والوحشية ظاهرة على معالم وجهه الملائكي البريء ، كما كان دائما يجلس وحيدا لا يلعب مع أقرانه ، شارد الذهن ، ذابل الوجه ، حزين الفؤاد .
ولم يكن الأب الجاهل يعرف شيئا عن الوحشية التي كان يتعرض لها فلذة كبده منير على أيدي زوجته الظالمة .
وفي يوم من الأيام ، دعت الزوجة أمها وأباها وإخوتها إلى تناول طعام العشاء في بيتها ، وكان البرد قارصا ، والهواء عاصفا ، والدنيا مظلمة ، وإن تزينت بكل زينات الأرض والسماوات ، فهي ظلمة مثل ظلمة تلك القلوب المتحجرة ، التي لم تذق في حياتها طعما للرحمة ولا للحب أو الحنان .
وبعد أن قدمت الزوجة الظالمة طعام العشاء لضيوفها ، عمدت إلى عزل الطفل اليتيم بمنأى عن الحاضرين ؛ ليتناول طعامه معزولا عن جميع الحضور ، وبعيدا عن الأعين والأنظار ، إلا عن نظر أمه من فوق السماوات السبع .
تناول الجميع طعام العشاء ، وظهرت علامات البهجة والسعادة على وجوههم كما ظهرت على كروشهم ، ثم انصرف كل منهم إلى شأنه .
ولا يزال الطفل جالسا في منفاه الأبدي ، ينتظر قرار حكم محكمة السماء ، دون أن يلفت غيابه حول مائدة الطعام نظر أو تفكير أبيه ، ولا حتى أحدا من الحاضرين .
وعندما ذهب الأب ليخلد إلى النوم ، رأى في نومه زوجته المرحومة أم منير تقول له : ارحم منير .
وفجأة صحا الرجل من نومه وسأل زوجته الظالمة : كيف منير ؟ فقالت له : منير نائم .
بعد أن تناول الطفل اليتيم طعامه منفردا حزينا ، محروما من أمه التي طال غيابها عنه ، ليغيب عطف أمه وحنانها إلى غير رجعة ، أو يقضي الله أمرا كان مفعولا .
استسلم الطفل للنوم العميق تحت البرد القارص ، والهواء العاصف والليل الحالك ، يفترش الأرض ويلتحف السماء ، ولا غطاء يحميه من البرد ، إلا ما وعد به القدر الذي كان ينتظر براءة طفولته ، وعيونه الذابلة ووجهه الحزين ...... إنها الحياة فما أشد آلامها .
عادت المرحومة أم منير مرة ثانية بعد نصف ساعة من سابقتها إلى زوجها في نومه ؛ لتقول له ما قالته له في المرة السابقة :ارحم منير .
وصحا الرجل مرة ثانية من نومه كما صحا في الأولى ، ثم سأل زوجته أيضا كما سألها من قبل : كيف منير ؟
فقالت له كما قالت من قبل : منير نائم .
منير الوردة اليانعة التي لا تجد عناية لها غير عوامل التعرية والفناء ، ينام في حضن البرد بدلا من حضن والده وزوجة أبيه .
وللمرة الثالثة تأتي أم منير في النوم إلى زوجها وتطلب منه أن يرحم منير .
كان الأب في كل مرة يصحو من النوم ويسأل زوجته : كيف منير ؟ وكانت الزوجة الظالمة تجيبه : منير نائم .
تكرر قدوم المرحومة أم منير إلى زوجها في نومه ست مرات في ليلة واحدة ، وفي كل مرة كان الأب يسأل زوجته عن منير، وكانت الأم تجيبه كعادتها : منير نائم .
لم يجد منير في ليلته السوداء تلك من يبحث عنه ، ولا من يهتم به ، غير روح أمه المرحومة ، التي جعلت من روحها له غطاءً ومن قلبها فراشا ، كما جعلت من كبدها وسادة له وهو في بطنها ، وتدخلت عناية السماء لتروي تلك الريحانة الذابلة بماء الحياة الأبدي الذي لا ينفذ .
عادت المرحومة أم منير إلى زوجها للمرة السابعة ، ولكن هذه المرة لم تكن كسابقاتها فقد قالت لزوجها : منير هو عندي الآن ......
قام الأب من نومه مذعورا هلعا ليتفقد منير اليتيم ، الذي لم ينم على فراشه ولا في غرفته مثل أقرانه في طفولتهم ، بل وجده نائما على البلاط نومته الأبدية ، في ليلة باردة ، وقد خرجت روحه إلى بارئها .
لقد فارقت أم منير رضيعها منذ ساعاته الأولى ، لكن قلبها المفعم بحب طفلها لم يفارقه ، نعم إنه قلب الأم ، فمن الذي يقدر على تقديرها حق قدرها ؟ .
فويل للقاسية قلوبهم من عذاب عظيم.