ضيوف من فرنسا
ضيوف من فرنسا
مجدي السماك
عضو الجمعية الدولية للغويين والمترجمين العرب- واتا
رنت ساعة المنبه رنات قبيحة مزعجة تشير إلى أنها ترن بوقاحة وغل. مدت سعاد سبابتها وهي نصف نائمة وأسكتتها حتى لا تسمع لها أي رنين. بعد دقائق قليلة قامت سعاد من السرير وجسدها القصير المكتنز يتطوح كالمسطولة. وقفت قدام زوجها النائم تمط جسدها بكل ما لدى عضلات جسدها الطري قدرة على المط. وتثاءبت فاتحة فمها على آخره حتى كاد أن تتمزق زواياه. وما زالت تحس ببقايا نوم يتعتع ساقيها، ويدغدغ ركبتيها، فهي غير متعودة على النهوض مبكرا مع تباشير الصباح الأولى كما اليوم.. فمساء الأمس عرفت أن عمر شقيق زوجها سيصل هو وزوجته الفرنسية بعد ظهر اليوم إلى غزة، قادمين من فرنسا، عمر يحمل الجنسية الفرنسية من سنين، ومن سنين يعمل طبيبا متخصصا في الكثير من المؤسسات الإنسانية، منها منظمة أطباء بلا حدود.. أما زوجته فتعمل محاضرة لمادة علم الاجتماع في جامعة فرنسية عريقة.
نجحت سعاد بصراخها الصاخب والوخز في إيقاظ زوجها والأولاد. تناولوا جميعا طعام الإفطار الأزلي المكون من خبز وفول مدمس. ثم أعدّت سعاد للضيفين المنتظر قدومهما طنجرة مهلبية، وسكبتها في صحون صغيرة، ونثرت على وجه كل صحن القليل من مسحوق القرفة وجوز الهند، وأضافت ثلاث حبات زبيب إلى وجه كل صحن، ثم غطت الصحون بقطعة نايلون كبيرة خشية من الذباب.. ووقفت تلقي على الأولاد الصغار كل ما تحفظه من قوائم النصائح والإرشادات، وراحت تتلو عليهم ما تيسر من تعليمات، منذرة ومهددة بعقوبات قاسية لمن يخرقها..
- أنت يا ممدوح، أوع تلحس أي صحن مهلبية بطرف أصبعك، إذا لحست سيترك أصبعك أثرا للحس وتكون فضيحة أمام الضيوف يا ولد، لا تفضحنا! وإلا سأكسر يدك، والله سأكسرها.. أوع يا ولد تقرص أخوك الأصغر منك. وأنت يا احمد، اجلس مؤدب يا ولد، ولا تنس أن تمخط أنفك بالمنديل من حين لآخر، فأنفك يسيل منه المخاط باستمرار كالشلال، لا تمخط بكم القميص.. عيب يا احمد.. ضع المنديل في جيبك، وضع يدك على فمك عندما تكح، ولا تعطس في وجه أحد. وأنت يا نسرين، لا تنسي يا حبيبة ماما أن تمشطي شعرك وتقلبيه إلى الوراء وتربطيه بالبكلة، لا تتركيه منكوشا مثل المجنونة يا بنت.. أوع تمصي إصبعك، عيب يا ماما. إياكم أن تشاغبوا يا أولاد .. التزموا الصمت، لا أحد يبطح الآخر ويعاركه أمام الضيوف .. أوعوا يا أولاد.. عيب!
ثم توجه زوجها سفيان قبل الظهر إلى معبر ايرز ليستقبل الضيوف ويجيء بصحبتهم.. بينما راحت سعاد بمساعدة ابنتها الكبيرة تنظفان البيت كما تفعلان ليلة العيد، وتأكدت من لمعان مقابض الحنفيات، بعد أن جلت المغسلة مزيلة ما التصق بها من صفار داكن وسواد.. بعد ذلك راحت تزيح تلال الغبار عن الخزانة وبقية الأثاث، ولم تنس الأم أن تنفض الغبار عن الستائر المكرمشة وأعادت كيها من جديد، وصبت الماء على البلاط وفركت بقع العلكة الناشفة الملتصقة به، هدّها التعب وهي تنظيف الجدران الشاحبة في محاولة شاقة لإظهار لونها الأصلي، ومسحت البقع المخاطية والزيتية وآثار الأحذية وكل ما على الحائط من شخابيط قديمة وجديدة.
عاد الزوج بصحبة شقيقه وزوجته، تناولوا جميعا الطعام والشراب، تبادل الجميع مختلف أنواع الأحاديث، الممتع منها والممل.. وأكلوا صحون المهلبية كلها.
في البداية شعرت سعاد بالوحشة فور أن رأت المرأة الفرنسية، ذات الوجه الأبيض المشرب بالحمرة، وجسدها نحيف ملفوف بفستان يضيق عند الصدر، ثم يتسع حتى يصل إلى أسفل الركبة بكثير ويكاد ذيله أن يلامس الكاحل، وينساب على كتفيها شعر ناعم أصفر مثل المشمش، وما هي سوى لحظات حتى همست سعاد في أذن زوجها مغمغمة: إن منظرها مثل الخروف المسلوخ. وعندما عرفت سعاد أنها تتقن اللغة العربية، وتتمتع بخفة دم قل مثيلها، مثل الشربات، وأحست أنه اخف دم خلقه الله، وضحكتها جذابة تكشف عن أسنان جميلة براقة، مستمدة بريقها من قلب طيب، عند ذلك شعرت سعاد بالألفة نحوها واستلطفتها، وطلبت منها أن تتبعها إلى الغرفة الداخلية، كي تستفرد بها ليأخذ لسانها راحته وحريته في الكلام.. وأن تترك الرجال في الصالون، أو بالأحرى هي فسحة صغيرة ضيقة في البيت، تكّرموا عليها ومنحوها لقب صالون.
وكما يحدث عادة عند التقاء النساء، سار الحديث بسرعة إلى قدره المحتوم، إلى الحديث عن الطعام وأصوله من طبخ ونفخ. وسعاد بصفتها من الراسخات في أحوال الأطعمة وفنونها، بل هي من جهابذة الطبخ، سألت الفرنسية عن أنواع الأكل في فرنسا.. لم يرق لسعاد قوائم الأطعمة الفرنسية، معتبرة إياها من النواشف.. واندفع لسانها بهمة ونشاط يتحدث بحماس زائد عن الأطعمة الفلسطينية، محركة يدها بعشوائية حتى كادت سبابتها أن تخرم عين الضيفة الفرنسية، وسعاد تعتبر من الفطاحل في إعداد المحاشي، ويشهد لها على ذلك كل نساء المخيم، وتعتبر ربة بيت من الطراز الرفيع.. وأكثر ما تتقن صنع المحشي مثلما تتقن أكله، وتتقن الحديث عنه بجدارة، تتحدث عنه كأنها متخصصة بإعداده مثلما يتحدث أي متخصص في حقل إبداعه، حتى أنها مولعة بحواديت الطبخ إلى درجة أنها قد تصاب بوجع الرأس إن لم تتحدث عنه مرتين أقل شيء في اليوم، وقد تصاب بالدوخة إن هي سكتت عنه لوقت طويل.. فالحديث عن الطبخ بالنسبة لها وقاية وعلاج أيضا.. يقال فيما يشاع عنها بين نساء الحارة أنها قبل عدة أسابيع أصابها الإغماء فقرب زوجها إلى أنفها حبة محشي باذنجان كي تشمه وتصحو.. وآخر مرة قبل أيام أصيبت بآلام حادة في أذنها، أصابها التهاب في الأذن الوسطى، فتركت جانبا دواء الطبيب، بما في ذلك القطرة، وجعلت زوجها يتمتم في أذنها كلمة كوسا ثلاث مرات.. و يقال أنها تعافت على الفور، وراحت تحدث نساء الحارة عن وصفة جديدة فعالة لعلاج آلام الأذن.. وتقول أنها من ابتكارها.
أخذت سعاد تشرح إلى المرأة الضيفة طريقة إعداد أكثر الأكلات حبا إلى قلبها..
- اسمعي يا أختي، أنا سأعلمك طريقة إعداد محشي الملفوف، البعض يسميه كرنب.. ما هو اسمه باللغة الفرنسية؟ آه.. اسمه ليس مهما.. المهم طريقة الإعداد.. وهي أكلة ضرورية كي يسمن زوجك بدل ما هو رفيع مثل الشوكة، وناشف مثل عود البخور.. اغسلي الكرنب جيدا تحت الحنفية، تحت ماء جاري، ثم ضعيه في طنجرة كبيرة مليئة بالماء كي تسلقيه.. لمّا يغلي انتظري حتى يهمد.. ثم انزليه عن النار واتركيه حتى يفتر.. بعد ذلك يا أختي .. دوت في المكان أصوات طلقات نارية وفرقعات شديدة، شعرت الفرنسية بالخوف، وانشد جلد وجهها وانكمش، وراح لسانها يجمع الريق من أرجاء فمها لتبلعه. لكن سعاد طبطبت على ظهرها قائلة..
- لا تخافي.. القصف بعيد من هنا، أكثر من خمسة كيلوات.. آه يا عيني عليك يا أختي، أنت لست متعودة على ذلك.. في هذه الأثناء يتم تجهيز حشوة الأرز ، ضعي عليه البهارات، ومسحوق الهيل، مع قطع اللحم المفرومة إلى قطع صغيرة.. والله يا أختي ما حدا قادر يشتريها، في هذا الحصار وغلاء الأسعار.. ثم أضيفي كمية مناسبة من الملح.. كل هذا يخلط مع بعضه جيدا في صينية واسعة. اهتز البيت على صوت قذائف عنيفة جدا، واضح أنها قريبة للغاية.. انتفض لها جسد المرأة الفرنسية، فقفزت ملتصقة بسعاد، وصدرها يلهث كأنها قطعت المحيط الأطلسي سباحة على شوط واحد.. فأخذت سعاد تطمئن قلب الفرنسية مؤكدة..
- هذا قصف بعيد عن هنا، إنه في الحارة المجاورة، أكيد أنها قذائف طائرة أباتشي، أنا سمعت صوتها وهي تزن، أكيد ليست طائرة ف16.. أمالت سعاد رأسها تسأل زوجها في الصالون عن نوع الطائرة، لكنها لم تنتظر الجواب، فهي تسأل بهدف تأكيد كلامها والموافقة عليه، وليس بهدف المعرفة، لكن زوجها لم يجبها لانشغاله في الحديث مع شقيقه.. ثم تابعت سعاد كلامها مع المرأة..
- بعد ذلك افردي الملفوف على الطبلية، طبيلة نظيفة طبعا.. وتقطعيه بسكين حاد إلى مستطيلات بحجم الكف، لكن كف يدك صغير يا أختي.. ممكن اكبر من كفك بقليل، على أكثر تعديل كف ونصف، بعد ذلك ضعي الرز في وسط قطعة الملفوف.. عاد دوي الانفجار، أكثر شدة هذه المرة، اهتز له البيت بعنف، وجفلت الأجساد، كأن السرير كان معلقا بسقف الغرفة وسقط بهما فجأة، ولم تدر الفرنسية كيف وجدت نفسها في حضن سعاد، كل خلية في جسدها تملأها دوامات خوف وهلع، فتشنج وجهها، وتجمدت نظراتها صوب النافذة، شعرت نفسها كأنها تجلس في ساحة حرب، وأنها على شفا حفرة من الموت، بعد أن هدأت حدّقت في وجه سعاد مستغربة هدوء أعصابها وكأن شيئا لم يحدث.. بدورها أحضرت لها سعاد كوبا من الماء لإخماد نيران اشتعلت في رئتيها، واستمرت سعاد تهدئ من روعها..
- نحن متعودون على ذلك يا أختي.. هذا قصف مدفعية دبابة، وإذا لم نسمعه كل يوم نشعر بأن هنالك أمر غير عادي، وأكيد نتيجته موت ثلاثة أشخاص أو أربعة، وربما خمسة، وربما عائلة بأكملها.. من المؤكد أنك لا تسمعي في حياتك صوت انفجار أقوى من فرقعة انفجار بالون.. بعد ذلك تغلقي الكرنب بشكل اسطواني، من الضروري إتقان إغلاقه كي لا ينفتح، ثم تضعيها بهدوء في الطنجرة.. ثم تملئي الطنجرة بالماء حتى تكاد أن تغمر الكرنب، بعد ذلك ضعيه على النار حتى يغلي.. اهتزت الدار هزات مزلزلة على وقع قذيفة طائرة، أحس الجميع كأن الدار معلقة في السماء وفلتت فجأة لترتطم بالأرض.. لقد تم قصف بيت الجيران، وتناثر زجاج النوافذ، وتشققت الجدران.. حتى سعاد اهتز جسدها وأغمضت عينيها ومرت لحظات قبل أن تفتحهما.. جالت سعاد بعينيها فلم تجد المرأة الفرنسية في الغرفة.. اعتقدت سعاد أنها توجهت إلى زوجها في الصالون.. ولمّا لم تجدها أصيبت بالحيرة، هي نفس الحيرة التي ألمّت بالجميع.. وما لبثت الحيرة أن استحالت إلى دهشة عندما لم يجدوها في الحمّام أو أي ركن من أركان البيت الصغير الضيق، فانقلبت الدهشة إلى فزع رهيب دب كالإعصار المدمر في النفوس.. هدأ الإعصار فجأة على صوت الولد الصغير يصرخ..
- ماما.. ماما.. الفرنسية نائمة تحت السرير.
بهلع مشوب بالخوف توجه الجميع جريا إلى الغرفة حيث السرير، نظروا أسفل السرير فوجدوا الفرنسية في حالة إغماء، فسحبوها برفق. أسرع زوج سعاد لإحضار الكولونيا، لكن سعاد سبقته إلى المطبخ وهشمت بجمع يدها بضربة واحدة رأس بصل كبير، وقربته إلى أنف الفرنسية.. أفاقت المرأة.. واطمأن عليها الجميع.. وأخذتها سعاد ثانية إلى جانبها على حافة السرير..
- ألف سلامة عليك يا أختي.. بعيد الشر عنك.. القصف ليس عندنا.. إنه في بيت الجيران، تم نسفه بقذيفة طائرة، أصل بن الجيران ضارب الدنيا بالصرمة، وحط نقره في نقر إسرائيل، وإسرائيل هي الأخرى حطت نقرها في نقر بن الجيران، ورئيس وزراء إسرائيل بنفسه طلع على التلفزيون وحلف يمين طلاق بالثلاثة إلا يقتل بن الجيران، فهمتي يا أختي.. بعد أن يغلي الكرنب على النار يا أختي، من الضروري أن تخفضي النار كي يستوي على نار هادئة وإلا سيحترق.. يقطعني! نسيت أن أقول بضرورة نثر القليل من الكمون على الوجه، لمنع النفخة.. فهمتي؟ يا حسرة، باين أنك ما زلت خائفة، أكيد أنك ما فهمتي.. اسمعي يا أختي، أنا سأعيد عليك شرح الطريقة مرة أخرى.. وبالتفصيل من الألف إلى الياء.. ركزي مخك.