جدران الصمت والعذاب

جدران الصمت والعذاب

عوض عثمان عوض / سوداني مقيم بالمهجر

[email protected]

نسمة هواء رطبة تنساب عبر كوة زنزانة سجن النساء , مصحوبة بصوت ريح خفيف وعواء كلاب , في ليل شتوي طويل وبائس يتقيأ الحزن والألم والعذاب , عقارب الزمن تمضي بتكاسل وتزحف بطيئة مثل السلحفاة ..

بعض النزيلات نائمات دفن حزنهن بالنوم العميق وأخريات فارق النوم أعينهن من كثرة الأرق و التفكير , أم ياسين تتمتم بكلمات ساخطة عن أوضاع السجن المزرية و تهدهد طفلها لكى ينام وتغني له :

نيمتك في العلية خوفي عليك من الحية

تعاليله يا بدرية يركن على صوتك ينام

- آه يا أم ياسين .. نحن الآن في بطن الحية نفسها , لقد تعودنا على هذا الظلم منذ زمن بعيد كنا في السجن الأصغر و إنتقلنا الآن للسجن الأكبر , كيف لطفل رضيع مثل ولدك ياسين أن يولد و يربى في هذا السجن ؟ تبا لهذه الحياة كم هى قاسية , أم ورضيعها في سجن و الأب في سجن آخر ..

علقت نزيلة أخرى :

- لا تخافي عليه يا أختاه .. سوف يخرج من هنا أشد صلابة وبأس , فقد شرب من مرارة الظلم منذ أول ثانية لقدومه لهذا العالم ...

- متى ستتدخل يا الله و تريحنا من هذا العذاب ؟

- عليكن بالصبر , سيتدخل لكن في الوقت المناسب ..

- ومتى سيأتي هذا الوقت المناسب ؟ بعد أن يدفع كل الشعب الثمن ؟؟

- هذا قدرنا كتب علينا أن نكون ضحايا عصر الإنحطاط هذا , ويبدو أننا لن ننعم بالسلام قريبا مع هؤلاء النازيين الجدد الذين لا يعرفون إلا لغة البطش و الموت ..

إحدى النزيلات كانت تستمع للحديث الدائر وخرجت فجأة عن صمتها قائلة :

تخيلوا حتى للسجن هذا درجات ؟ عندما تكون الواحدة منكن في الحبس الإنفرادي تتوق لهذه الجلسة , على الأقل هنا تجدي من يخاطبك و يستمع إليك , لا أن تخاطبي الجدران الصامتة ..

سأحكي لكم الليلة جزء من تلك الأيام البائسة التي قضيتها في الزنزانة الإنفرادية عندما وضعوني

فيها لمدة ثلاثة أشهر , كدت أفقد عقلى من كثرة الصمت و الفراغ الذئ يملأ الجدران الكئيبة ..

أغني أحيانا بصوت عالي حتى لا أفقد القدرة على الكلام , أبكي - أضحك - أصرخ وأشتم في وجه الفراغ حتى أكسر الملل و الإحباط الذي يتسرب داخلي مثل السرطان عندما يدخل الجسم , أفكر و أفكر أخاطب الجدران تارة بفرح و تارة ألعنها وأرتمي فيها وأسكب فيها دموعي وآهاتي , وأحيانا أنظر لها بصمت عميق عسى أن أجد ومضة أمل عابرة أو نقطة ضوء عند نهاية رحلة التأمل , وكما تعلمون أن العزلة ليست في قاموسي لكن للسجن أحكامه المجحفة , رغم كل تلك المعاناة لم أيأس أبدا , حقدي لهؤلاء الوحوش و الجلادين يزداد كل ثانية حتى كاد ينفجر , وأزددت عزيمة وإصرار على الصمود و البقاء رغم كل ذلك الوجع و الأسى , إستمديت قوتي من كوننا أصحاب قضية عادلة رغم تواطؤ العالم (المتحضر) ضدنا ومن إطلاعي لمذكرات سجناء قضوا سنوات طويلة في السجون لكنهم خرجوا بكل صلابة وإرادة كأنهم كانوا في سفرية نقاهة طويلة , سرحت قليلا مع نفسها وسقطت دمعات حارة على خديها , تأثرن رفيقاتها بهذه الدموع السخية , وواصلت بعد ذلك بصوت خافت فيه نبرات حزينة :

تذكرت النزيلة سحر جبر التي إنتحرت في زنزانتها الإنفرادية الملاصقة لي , بعد أن تم تعذيبها في الإستجواب و حرمانها لمدة أسبوع كامل من النوم .. قابلتها مرة عند الحمام قبل إنتحارها بثلاثة أيام حكت لي بهمس عن التعذيب الوحشي الذي تعرضت له وأنهم هددوها بالإغتصاب وأعتقد جازمة أن هذا هو سبب إنتحارها , فقد لمحت لي بأنها سوف تتحمل أى شكل من التعذيب إلا الإغتصاب .. لن ألومها و لو كنت مكانها في ذلك الموقف لما وجدت سبيلا لما قامت به .. هل أوصفها لكم ؟ فأنتم لم تلتقوا بها في هذا السجن .. فتاة جميلة جدا تبلغ من العمر حوالي التاسعة عشر لها وجه طفولي يشع منه جمال مذهل للنظر تبدو كزهرة يانعة و مشرقة قطفت لتوها من حديقة غناء .. أذكر في ذلك اللقاء الذي لم أعلم أنه سيكون الأخير ودعتني بنظرات صافية تخبئ خلفهم حزن عميق وآلاف من الكلمات , عندما سمعت بخبر وفاتها دخلني حزن كثيف وشعرت بوخزات ألم في ضلوعي بكيت عليها يوما كاملا حتى تورمت عيوني من شدة البكاء ,لم أتخيلها حسمت قرارها بهذه السرعة ؟ لا أدري ماذا كان سيكون مصيري لو لم تنتحر ؟؟ هل كنت سأصمد أكثر من ذلك ؟؟؟ أعلم أنها قدمت لي معروفا بموتها هذا , ولا أدري كيف أرد لها ذلك الجميل ؟ أخرجتني إدارة السجن من الزنزانة الإنفرادية بعد يومين من حادثة الإنتحار , لم أفرح أبدا بذلك الخروج إذ كان ثمنه إنتحار تلك المناضلة الباسلة ...

آه يا رفيقات الوجع .. هكذا تمضي أيامنا بكل تفاصيلها المؤلمة تسحقنا الأقدار و تقذف بنا عند حافة الحياة بلا أمل أو غد أفضل , نعيش مكبلين بقيود وأحقاد الجلادين تحت فحيح من الظلم الأبدي الذي يخنق أنفاسنا ويطوق حاضرنا ومستقبلنا بسلاسل من الوجع ..

أشرقت شمس الصباح باهتة الضوء بعد ليلة طويلة من الليالي المظلمة داخل الزنزانة , و جدران السجن كما هى حزينة و معتمة تحمل ملامح الإنكسار و القهر والصمت والعذاب , وذاكرة النزيلات تحمل بقايا حلم بترقب وميض نور و إشراق ضوء تسطع من خلفه شمس الخلاص لتنير هذه الظلمة ..

 على سبيل الإهداء : 

 إلى اؤلئك الأطفال الأسرى و للأسيرات العظيمات القابعات داخل سجون الإحتلال الصهيوني ..