جاء مودعاً

عبير الطنطاوي

[email protected]

جلست في غرفتها الخالية إلا من ذكراه العطرة تحدثه .. تسأله :

ـ ماذا تأكل غداً يا رامز ؟

ـ هل أغسل ثيابك غداً أم بعد غد يا بني ؟

ـ من تريدني أن أخطب لك ؟ بنت جارتنا أم فرح أم ابنة عمك (هدى) ؟

طوال الليل وهي على هذا المنوال .. تسأله وتستفسر عن رغباته ولكن دون مجيب ..

هل فقدت عقلها ؟ تبادر هذا السؤال إلى أذهان الحاضرين الذين شهدوا مأساة هذه الأم في عصر قذر وفي بلد وحشي ظالم .. وكيف لا يصاب عقلها بشيْ من الهوس بل بكل الهوس ! بعد أن أخبروها أن ابنها رامز خارج اليوم من السجن قد أمضى فيه عدداً من السنين .. يا لفرحة قلب طال عليه الألم والحزن ..

قامت أم رامز تعد البيت وتهيئه .. غسلت أرضه بمياه طاهرة ومسحت جدران البيت من آثار الشوق إليه فإنه عائد ولم تعد بحاجة إلى أن تنقش على جدران غرفته أشواقها .. دعت الجيران والأحباب .. أقامت وليمة كبيرة حضرها بعض المحبين والأصحاب .. كان الجميع يردد اسم رامز .. حتى أن الأم أعدت طعاماً لعدة أيام حتى تبقى طوال تلك الفترة قرب رامز .. تحدثه .. تسأله .. تحكي له قصصاً ليستعيد ذكرى طفولته .. وتمسح له على شعره لينام ليلاً .. تدفي فراشه في أيام الشتاء .. وتعمل على جعله بارداً في الليالي الشديدة الحرارة .. هكذا كانت تحلم أم رامز بأن يعود رامز وتعود أيامه ولياليه .. وعندما جاءها خبر خروجه من السجن وجدت قصور أحلامها تبنى أمامها بل أنها أصبحت جاهزة ولم يبق لها سوى أن تلمسها .. ولكن يا خيبة المسعى ويا ويل تلك الأم المفجوعة .. هم جلبوا إليها وليدها وأخرجوا رامزاً من السجن وليتهم لم يفعلوا .. أخرجوه حياً ميتاً .. بربع عقل بل إنه قد فقد عقله .. فلا يصحو إلى ما حوله إلا دقائق ثم يغمض عن هذه الدنيا .. عندما سلموه لوالده الذي ذهب إلى أخذه من مستنقع قذر يقال إنه مستشفى السجن قال له الطبيب :

ـ لن يعش طويلاً ..

دخل رامز إلى البيت بصحبة أبيه وبدأت الأم بالزغاريد وإعلان آيات الفرح .. جلس رامز بينهم ساعة وساعتين ثم ذهب مع أمه إلى غرفته لينام فقد خشيت أمه عليه من التعب .. وبين أحضان أمه وفي غرفته التي شهدت قدومه لهذه الدنيا وعلى فراشه الذي قامت أمه بتدفئته غاب عن هذا الكون وما يحويه من الملوك والمملوكين مودعاً عالم الإنسان الظالم إلى عالم الرب الطاهر .. ودع هذا العالم بين أحضان أمه .. لم تشعر أم رامز بموته إلا بعد أن رأت جمود عينيه .. نظرت إليه بغرابة .. ضربت على خده .. صرخت في وجهه :

ـ رامز .. أيها المشاغب الصغير .. أغمض عينيك لتنام .. رامز .. رامز ..

تجمع الأهل في الغرفة حول السرير وحملوا رامزاً بعد أن غطوه بغطاء خفيف بعيداً عن الأم التي ذهلت عن العالم ولم يخطر ببالها ما حل بوليدها وقبل أن يخرجوا به صرخت في وجوههم :

ـ خذوا هذا الغطاء غطوا رامز حبيبي حتى لا يبرد ..

وكانها انتبهت إلى نفسها بعد برهة فقالت :

ـ إلى أين تأخذونه ؟ لقد خرج من السجن اليوم .. فإلى أين أنتم ذاهبون به ؟

ونهضت إليهم تشد وليدها الحبيب تريد أن تأخذه منهم .. ولكنهم قسوا عليها .. وأبعدوها بعنف خارجين به .. وبعد ساعة من الجدل حول رامز مع الجارات والمقربات أدركت أن أحفاد القردة والخنازير قد أعادوه إليها ليشعلوا نيران قلبها أكثر فأكثر ..