فادية

عبير الطنطاوي

[email protected]

دخلت إلى المستشفى وقلبي يخفق بشدة .. الخوف والذعر حوّلا وجهي إلى ورقة خريفية شديدة الصفار ، أنفاسي تتلاحق بشدة ، ودموعي أمطار لا تنفك عن الهطول ، (فادية) صديقة قديمة عزيزة وغالية ، أنجبت قبل أسبوع من الآن وليدها السادس الذي بذلت قصارى جهدها كي تجهضه لكن من دون جدوى فرضيت بالأمر الواقع وسكتت ، ولكن الله قدر وما شاء فعل .. شاء المولى أن تعيش لتنجب ذلك الوليد ثم تودع الدنيا بلا عودة ، كانت عندما تدخل بيتي الملئ بالأزهار والأشجار والتحف الفنية الفخمة تقول :

  ـ لقد وعدني (مراد) بأن يشتري لي البيت الذي تحتك حتى أصنع فيه مثل ما صنعت ..

كنت أضحك حزينة عليها فأنا أعرف أن (مراد) لن يفعل ذلك . وأقول :

  ـ قولي إن شاء الله .

  كانت مربوعة القوام ، بيضاء حمراء ، لها عيون بريئة تشع الأحزان من بين بريقها المرح الصاخب ، لأن الحياة قست عليها منذ أن كانت رضيعة .. فقد كانت في بيئة قروية متشددة ، قست عليها لأن ذنبها أنها بنت ، ثم رمتها الأقدار في يد رجل تفنن هو الآخر في إهانتها وتعذيبها ، ولم تسلم حتى من أولادها فقد رزقت بأولاد أشقياء خمسة ، ومع كل تلك القسوة كانت كريمة النفس محبة للناس .. ولكن الناس كانوا يتثاقلون منها ومن صغارها ، أما هي فقلبها الكبير كان ينسى الإساءة في سبيل أن تبقى على صلة بهم .

  آه .. اقتربت من قسم العناية المركزة وبدأ قلبي يعتصر عصراً ، وفجأة بدأت أشعر بالغثيان وأخذت معدتي تؤلمني وكأنني بحاجة إلى أن أستفرغ هذه الدنيا كلها من فمي ..

  وجدت كرسياً خشبياً جلست عليه لأرتاح .. وعدت بذاكرتي إلى ساعات قليلة من الآن عندما كنت أتحدث معها على الهاتف وهي تسألني متى سننزل إلى السوق لنشتري كسوة العيد للصغار ؟

  وكنت أضحك من قلبي على قلبها الطفولي الرقيق .. وأقول لها :

  ـ اهدئي بقي للعيد شهر تقريباً انتظري حتى تشدي حيلك فأنت مازلت والدة حديثاً ..

  وإذا بها تضحك وتقول :

  ـ والله سأخبرك خبراً وأنا خائفة من لسانك الطويل ، لقد دعوت جاراتي عندي اليوم ليباركوا لي بالمولود الجديد ..

  لا أدري ما حصل لي حين قالت ذلك ؟ أحسست بدموع عيني تنفر نفيراً محرقاً من عينيّ . قلت لها :

  ـ أرجوك اعتذري لهن .. إنهن ثقيلات يجلسن بالساعات مع أولادهن وأنت مازلت تعبانة .. كما أنهن لا يرحبن بك وبأولادك مثلما تفعلين معهن ..

  قالت :

  ـ يا أختي .. زوجي يتأخر كثيراً وأنا وأولادي نسعد بهن وبأولادهن ..

  وسمعت صوت جرس باب بيتها يقرع .. قالت مسرعة :

  ـ مع السلامة سأحدثك بعد أن يذهبن .

  ثم تمضي ساعات طويلة من دون أن تتحدث معي وأنا في بيتي مع صغاري مشغولة .. وقبل ساعة تماماً من الآن حضر زوجي مهموم البال مكسور الخاطر..

  ولما سألته عن همه قال بقهر :

  ـ فادية المسكينة جمعت عندها خمس نساء ، ومعهن أكثر من عشرة أطفال ، جلس الصغار في غرفة فيها مدفأة تعمل على الغاز ، ولعل صمامها عاطل ، فتسرب منها الغاز ، وكانت في الحجرة ذاتها مدفأة أخرى تعمل على الكاز فبدأت المدفأة تحترق رويداً رويداً من إثر تسرب الغاز ووجود نار من المدفأة الأخرى ولما انتبه الأطفال إلى المدفأة وهي تحترق غادروا الغرفة إلى أمهاتهم فأخذت النسوة الصغار وهربن بهم إلى أسفل العمارة ومعهن فادية وصغارها وفجأة أعطت فادية صغيرها الوليد لإحدى السيدات وركضت إلى البيت مسرعة وهي تهلوس :

  ـ النقود .. البيت الجديد ..

  وبعد برهة رأت النسوة في أسفل العمارة فادية معلقة بحديد الفرندة المسكينة أرادت أن تفر من النار فدلّت نفسها من سور الفرندة التي في بيتها والنيران تأكل البيت أكلاً .. ولما رآها الناس أسرع أحد النشامى من شباب الحارة ومعه بطانية لينقذها وما إن وصل إليها حتى تعبت يداها وسقطت من الطابق الرابع فما كان من الرجل إلا أن رمى البطانية على الحديد وهرول إلى الشارع عله يصلح من الأمر شيئاً ولما رآها على الأرض بمنظرها المخيف حتى خرّ مغشياً عليه بقربها .. ثم حضرت سيارة الإسعاف وأخذتها . هيا لنزورها ..

  قلت له :

  ـ سبحان الله كنت متأكدة من سوء هذه الصحبة ..

  لبست بجمود وحضرت إلى المشفى .. قلت لزوجي :

  ـ انتظرني بالسيارة لا أريدك معي ..

  قمت من الكرسي وأقبلت إلى غرفتها وقد جمعت كل الشجاعة التي في الدنيا كي أستطيع أن أدخل إليها .. في البداية عارضت الممرضة في دخولي ، ثم بعد أن ملّت من إلحاحي الشديد عليها ، استأذنت من الطبيب ، ثم أذنت لي .

  دخلت إلى الغرفة بعد أن ألبسوني ملابس خاصة بغرفة العناية المركزة .. دخلت وإذا بجثة ضخمة جداً حجمها ثلاثة أضعاف حجم فادية .. وجهها فيه نور ، على الرغم من أن ملك الموت كان يرفرف فوق رأسها ، وقفت قريباً منها ، وأمسكت بشرشفها ، وعصرته بيدي مقهورة ، فشعرت برطوبة .. اقتربت من السرير وشممت الرائحة فإذا هي رائحة حليب يتدفق منها ، بكيت وبكيت ولم أشعر إلا بالممرضة تجرني إلى الخارج .. قلت لها متوسلة :

  ـ حرام .. الحليب يتدفق من الأم .. اشفطوه منها .. أرجوكم .. لا تدعوها هكذا ..

  قالت بأسى :

  ـ لا بأس .. لا بأس ..

  عدت إلى المنزل ، نمت قرابة نصف ساعة ، واستيقظت على صوت شهيق زوجي ، قمت إليه مفزوعة ولم يتكلم ولم ينطق ببنت شفة .. فقط أومأ برأسه ، ثم هرب من الغرفة ، وبكاؤه كعويل الثكلى أحرق قلبي .. إذن جاءه خبر وفاتها .. وشعرت أن الدنيا كلها تحترق بعيني بعد تلك الطيبة فادية ..