قصر قنداس

ماجد سليمان

ماجد سليمان

[email protected]

تنويه: الشخصيات والأحداث في هذه القصة أغلبها من خلق الخيال وبعض الأماكن هي من خلق الخيال أيضاً.

عملت في قصر قنداس .. قصرٌ يبعد عن الرياض بعض الأميال، قصرٌ  يغوص في وحل رذائل ساكنيه، تنبَّأ له السحرة والكُهّان بسيّدٍٍ أعور، فتحقّق ما تنبّؤه، سيّدٍ يتدفّق الحقد من بين جنبيه، ويُشعّ من مقلتيه، سيّدٌ له حاشية من الزنادقة، يريقون رغباتهم على إماء القصر دون اكتراث لعقابه، أو تأنيب من نفسه الجشعة، يرتاح في مجلسٍ يتصدّره جسده القصير، ذو المنكبين الصلبين، ورأسه الغائرة بين ترقوتيه، يُقلّب في يده اليمنى صولجانه المرصّع بالجواهر واللؤلؤ، ينحرف في خنصره ذو الأظفر الطويل خاتمٌ عدَنيّ له فصٌّ أسودٌ مكسَّرٌ إلى أربعة أضلاع، تبرز له قِبةٌ متوسِّطة تعتليه، يضيء كل ما أومأ بيده الباطشة مخاطباً حاشيته المتناثرين عند ركبتيه، محيطين بكرسيه المنقوش بكتابات الآلهة القديمة، ومفاخر الأقوام التي تناسلوا منها.

ينحني عن يمنيه كهلٌ مستشار له، له ظفيرة كالأظلاف، وله لحية ممشوطة حتى نهاية صدره المسطّح، وتطلُّ من داخل أدنيه الكبيرتين بعض شعيرات بيضاء وأخرى سوداء، يرتدي رداءً بنيّاً تظهر عليه بعض الرقع والفتوق، ينتهي فمه إلى قرب شحمتي أذنيه حين يبتسم بنفاقٍ إلى السيّد.

يَتَعامى عن زلّات السيّد كعادة يتخذها كل ذي ضعف، فلكي يرفل في النعيم لا بدَّ من تسييس الدين والإنسانية، حتى ينهمر عطاء السيّد.

كان السيّد لا يناديه إلا "عبدان" .. اسمٌ كان ساكني قصر قنداس لا يؤمنون أنه اسمه الحقيقي، بقدر ما كانوا جازمين أن له اسماً آخر استبدله بعبدان، حين صار في استشارة السيّد، وقيل أن السيّد تسبّب في جعله خصيّاً كعادته حين يغضب من بعض رجاله، فكان لا يعاقب إلا بالرضّ أو القطع، لكن بلوغه الاستشارة الخاصة بالسيّد يندفن سرّها تحت الأراضين السبع.

تمخّض الصبح عن خبر موت السيّد على فراش زوجته العذراء، دوى خبره في ممرّات القصر لتتلقّفه الألسن بفرحٍ وغبطة لأنفسهم.

"مات السيّد"

تردّدت كسهم اُطلق من كنانة قنّاص، تجوّل من أذن إلى أذن، مات بهدوء بعكس ضجيج أوامره الرماديّة التي كان يلقي بها جنوده على سكّان القصر.

* * *

يحيط بالقصر سورٌ عالي بُني من الطين والتبن، وشقّت فيه ثُقوبٌ واسعة للمراقبة، صُنع بابه من الخشب الغليظ، وذُقّت له يدان متينتان لدرفتين مبروزتين بالحديد، وأُودع له ترباسٌ من الفولاذ، وأتُمن مفتاحه لدى رئيس الحراسات الليلية.

أُمر بإغلاقه قُبيل المساء بساعة، كان وقتاً غير المعتاد، همَّ الحرس ليكوّنوا فرقتين، كل فرقة تدفع درفة ليكتمل إغلاق الباب، وحين أوشكت الدفتان على الالتحام بان من بينهما امرأة وكأنها انتُشلت من خلالهما، تضرب جيدها بيدٍ تُسمَعُ خشخشة أساورها وتصيح بصوت متهدّل:

- توقّفوا ، توقّفوا..

تطايرت أعين الحرَّاس فيها، ما زالت كفّها تهوي على جيدها حتَّى أحمرّ وكأنَّ دمه سَينزّ.

صاح رئيس الحرس بصوت مُتقطّع:

-  توقّفوا.

أوقف الحَرَس الدرفتان، فنزل رئيس الحراسات من مَنصّة خشبيّة أعدت لإلقاء الأوامر، سعى إليها على هون، حين وصلها كانت غامستاً يديها في الرمل وتَسُحُّ دمعها فوق ذرّاته الجافة، اقترب أكثر وأمسك بذقنها الطويل ورفع وجهها في وجهه وهَمَس:

- ما تريدين يا امرأة؟

خطوط الكحل التي أسلكها دمعها الفضيّ على خديَّها الطريين توحي بحرقةٍ تعبر صدرها بخشونة، تساءل في نفسه:

- "هل هي أرملة؟. أم أمٌ فقدت وليداً لها؟

أعاد سؤاله كرّة أخرى، ولكن بصوت خفيض يفوق الهمس:

- ما تريدين يا امرأة؟

كفكفت بيديها النحيلتين أجزاء الدمع، وابتلعت ريقها بصعوبة، ثم أتى صوتها يائساً:

- زوجي يا رئيس الحرس، زوجي.

أخذ حفنة من التّراب وفركها ثمَّ ذرَّها في الهواء .. التفت إلى الحرس حوله عن يمينه وشماله، وعن خلفه هم عاد بوجهه نحوها، وقال:

- وما خطبه زوجك؟

وَقَفَت ونَظَرت له بوجه اختلط فوقه الدمع والكحل وثالثهما الرمل:

- زوجي في سجن السيّد وأنا وأطفالي لا عائل لنا سواه.

اقتضب قلبه، وأوجس منها الريبة، رفع رأسه إلى قصر السيّد ثم أعاده وقال لها:

- وما قضيّته، لعل زوجك اقترف ما أوجب حبسه وتحقيق العقاب عليه.

أجابت وهي  تنفض ثيابها المرقّعة عن الرمل:

- أقسم أنه أُخذ ظلماً يا رئيس، أقسم لك.

أسند ذقنه على قبضته اليمنى، وقال بنبرة ساخرة:

- السيّد لا حاجة له بحبس زوجك بهتاناً، لتمضي من أمام الباب، ودعي الحرّاس يتمون ما بدأوه.

تراجعت خطوتين قصيرتين، وقالت بتحدي:

- لن أمضي حتى تقنع السيّد بإطلاق سراح زوجي.

أحسَّ الحرّاس بصعوبة التفاهم معها، بعد قليل كانت الشمس تسحب شرشفها الأصفر المخلوط بحمرة الغروب.

كل شيء في القصر مخيف ومريب، الطقس الذي جعل الكثيرين يخافون من بعضهم، ودفعهم إلى أن يقرأوا أفكار بعضهم في صمت، وفي وقت لاحق دفعهم إلى الخَرَس، لأن أي كلمة تسبب ارتباكاً، وأية زلّة قد تهوي بصاحبها في سجون السيّد.

أُدخلت المرأة على السيّد بعد انقضاء ساعتين من المساء، تراءى لها وكأنه يستحضر الأرواح، رفع بصره إليها فرأى جمالاً يلبس الأسمال،كان مجالساً لبعض منافقيه وضحكهم وهمسهم يتخبّط على ألسنتهم، ولغطهم يتصاعد .. رأت قطع الثلج وهي تُقرقع في كؤوسهم، عالمٌ حافلٌ بالمتعة والخصوبة.

استدار السيّد، ورَنَى إليها بشفقة مصطنعة، فشاهد تاريخاً أغبراً يتمزَّق في جسدها المريض المستور بالأسمال، كان عَرَقُ حزنها لؤلؤاً يلمع فوق عنقها ونحرها، وَقَفَ فاغر الفم متدلّي اللسان، مستمعاً إليها بسخرية وهي تترجّى:

- زوجي يا سيّدي، زوجي..

دَعَك شاربه المدهون بالشراب وقال:

- ما به؟

- إنه في السجن دون ذنب اقترفه، صدقني يا سيّدي، جنودك اعتقلوه ظلماً.. فهو دافع عن نفسه فقط حين اعتدى عليه نائب رئيس الحرس.

ضرب بيده طاولةً صغيرة وضعت عن يمينه وقال:

- أنا لا أظلم أحداً يا امرأة.

أشاح بوجهه إلى الجندي الذي يقف ليس ببعيد عنه وأمره:

- أحضروا زوجها.

أومأ الجندي إيماءة تدل على الطاعة وانصرف.

بعد وقت قليل أُوقف السجين أمام السيّد يحرسه من خلفه حارسان نحيلان، نهض السيّد من مجلسه واقترب من الرجل وهمس للمرأة:

- هل هذا هو؟

أجابت بتمتمة:

- هـ هـ هو.

جَرَت عيناه على الرجل بدقّة، ثم سلَّ خنجراً لمعت أضواء سقف القصر على نصله الحاد، خفق القلبان بشدّة، وبرزت عيناهما.

مرَّر السيّد النصل على الوريد .. ثانية واحدة فانخطَّ خطٌّ من الدم دائراً على عنقه، انفجرت روح الزوجة صائحة:

- يا سيّد.

رمى بصره نحوها وقال:

- قصري يهتزّ حين أغضب، فكيف بمن ينعتني بالظلم.

هَوَت جُثّة الرجل عند أقدامه، وتأمَّله السيّد قليلاً بينما الزوجة تضرب الخد والنحر، وتَسحُّ دماً بدلاً عن الدمع الذي لم يعد يجدي لإنقاذ حبيبٍ في هذا القصر.

في اليوم التالي وَقَف عبدان خطيباً في مسجد القصر مجلجلاً:

- من خَرَج على سيّد القصر فالقتل جزاءه .. وليكن مُنيف المتمرّد عبرةً لكل من تسوّل له نفسه الخروج على السيّد .. يا عباد الله طاعة السيّد واجبة ، وعصيانه عصيان لله ولرسوله، فاتقوا الله عباد الله.

* * *

شاهدت السيّد حين كانت سيَّارته الفارهة ذات الصفيح الصلب، والزجاج المضاد للرصاص، تقف أمام بوّابة القصر لتقلّه إلى داخل الرياض، كان يحتسي قهوته السمراء قُبيل المغرب ثم ينزل من شرفته يقتفيه ثلاثة من حرسه ذوي الأجسام المصبوبة والثياب المرقّطة، والأحزمة التي تشدُّ على بطن كلٌّ منهم، كان يمشي بخفّةٍ وذلك ما يتماشى تماماً مع قِصَرِهِ وعرضه.

يفتح له السائق باب الرَّاكب ليصعد في تعاليٍ مكشوف لمشاهديه، يتحدّث مع أحد حرسه ثم يغلق باب السيّارة دون أن يودّع أو يلوّح بيده المحمّلة بأطنان التعدّي والغلو.

تخترق سيّارته شوارع الرياض المخنوقة الزحام ماضياً في ليلة خاصةٍ عند من نهجوا منهجه، وما أن يضيء سنُّ الفجر حتّى يُسمع صوت توقّف عجلات سيّارته عند البوّابة الخلفيّة للقصر، فيترجّل منها كذئبٍ أخدَرَهُ الشَبَع، يتهادى حتّى يدخل قصره، وكأنه على استحياء من دخوله.

يفرقع أصابعه كعلامةٍ لإماء القصر كي يغدقن عليه من واجباتهنَّ في القصر من لمسات المساج، وتجهيز حوض الماء الساخن المرشوش بعطور الاستحمام، ليُلقي بنفسه فيه  كجيفةٍ نجسة.

وبعد أقل من الساعة يخرج من الحوض بعد أن ازداد قُبحاً، ليهوي على أحد جنبيه كمقتولٍ ذُبَّ رأسه واقفاً فَهَوى.

شبابيك القصر تنقرها العُقبان لتدفع دِرَفها مدخلاً لها كلًّ فجرٍ رماديّ، لم يستسلم لضرب مناقيرها غير شبَّاك  غرفة جلوس السيّد الخاصَّة، شبّاكٌ أُوصد بطريقةٍ متهاونة، فأُسلم لضيافة مخالبها ومناقيرها، تعبث في غرفة جلوسه، تتغوّطُ في زواياها، وتنعق بزهو .. تدور حول تمثاله الصلصاليّ وتخربش وجهه محدثةً فيه خطوطاً مستقيمةً وغير مستقيمة، هذا ما وجدناه حين أُمرنا بتتبّع أمر تلك الغرفة.

دخلنا غرفته بعد هروب العُقبان حين أحسّت بحركة المفتاح في ترباس الباب .. دخلنا على مشهدٍ تتربّع عليه الفوضى، كان يهمّه من تلك الغرفة تمثاله الذي أطفأت العُقبان في صلصاله غِلَّ الكارهين له.

دواليبٌ من الزجاج صُفَّت عليها تحفٌ ومزهرياتٌ مرصّعةٌ بجواهر صغيرة، مرسومةٌ بخطوطٍ مذهّبة، لم يسلم من اثاث الغرفة غير مجسّمٍ صغيرٍ لنمرٍ أفريقيّ، يفتخر فيه السيّد كثيراً لأنه أتاه هديّة من صديقه الذي يسامره كل ليلتين في قصره الواقع خلف شارعٍ ضيقٍ من شوارع الرياض الغاضبة.

حين أعلمناه بما حلَّ في الغرفة، تضّرَس وَفَار، كان يغلي من الداخل، أصدر لحظتها أمراً بمعاقبة المسئول عن نظافة القصر ..إنه الخِلْقة الأخرى للسيّد الذي قبله إلا قليلا، ولو أن السيّد الأول عاش حتّى أدرك ما حلّ بالثاني لكان رأس مسئول النظافة يتأرجح تحت سقف الغرفة، ليس جزاء بعمل، بل تعبيراً عن سخطه.

ففي يومٍ قائضٍ تخرق الشمس رؤوس الواقفين تحتها، أثقل على عمّال القصر ببناء جدارٍ رفيعٍ لا يدرى ما مراده منه، سقط أحدهم موشكاً على الهلاك .. إستدارت رأس السيّد إليه من فوق الشرفة فصاح به:

- لماذا توقّفت؟

بالكاد رفع العامل رأسه إلى الشرفة، وحرارة جسمه تغلي وعيناه تدوران وقال:

- لا أستطيع اكمال هذا العمل في هذا الجو الحارق.

وقف السيّد ورفع بندقيته، وقال بنرةٍ غاضبة:

- إخرس، ستكمل العمل وإلا أفنيتك من الدنيا.

- أرحني من العذاب في قصرك.

فسدّد له رصاصةً أسكتته إلى الأبد.

ليالي القصر غَيَّرتني تماماً .. مؤكدٌ أنني أندم كثيراً، وألوم نفسي على ضعفي، وأخاصم قلبي لكن طيف "انيثا" ظلَّ يلاحقني.

كانت أنيثا تتخايل لي في نومي ويقظتي، جمالٌ أذعن لنداء الحياة ..تمضي تتجسَّد ما أن أسمع صوت امرأة، وما أن تنسنس رائحة لأنثى حتّى أنشدُّ إليها بخيطٍ غير مرئي، وحين ألمح واحدةً أيًّ كانت فإنها لا تقف بجمال انيثا، بلذّتها، ورشاقة حركاتها: ذابلة الأجفان .. دافئة .. رطبة .. هادئة .. كأنَّ ساقاها عمودان مضيئان، عَرَقها المنزلق من جبينها حين يداهمها الحياء كأنه عرسٌ من العطور، وخجلها دائم النبع من تحت قدميها .. تمنّيتها ظلّي على الأرض، فهي كالأرجوحة تماماً حين تروح وتأتي، اقترابها منّي كان دائماً بمقدار، لأنها لا تقترب كثيراً لكي لا تصير باليد، ثم بعدها تقع في القلب حين تقع.

أُحدّد شيئاً في الليل، وحين يبصرني النهار أنقضه، أصبحت لا أعرف كيف أُحدّد رغباتي وعواطفي، لا أعرف ماذا أريد من هذا الملاك، مع أنه يكفيني أن أبحر في عينيها لحظة انتزاعي لجسدها من سكينته.

تعبرني كقمرٍ دمشقيٍّ ينغرس في الروح، فبالكاد أعضائي يأخذ بعضها بتلابيب بعض، فأحسُّ أنَّ الهَلَعَ يضع يده الباردة على عنقي، لأجدني بعدها مقطوع النَفَس، لأنَّ لقائها فضيلةٌ تُبدّد خوفي من الظلام.

اكتشفت أنّها مسيحيّة تخفي ديانتها .. حبُّ مسيحيّةٍ يقطن قلب امرئٍ مسلم .. تأكدّت من ذلك حين شاهدتها مرّةً تٌقبِّلُ سلسال الصليب الذي يطوّقُ عنقها الطويلة، وتثير بعض عباداتهم خِفْيَة.

تَعقَّبتها حين انتهت فترة عملها حين كان الفجر يزحف على ضلوع السماء .. انثنت خطواتي تتبّعها دون أن أُبدي أيَّ صوتٍ قد يفضحني، حتّى أغلقت على نفسها الغرفة، اقتربت بهدوء فاقترفتُ إثم التجسُّس على إنسان في خلوته، نظرت إليها من ثقب في بطن الباب، أحدثته قبل مجيئها لكي أربط دليل مسيحيّتها بقلبي المسلم.

كانت تثبِّتُ الصُلبان على جدران غرفتها، وتُقيم طقوس صلواتها بطريقة المسيح، تأكدّت بعدها أنها مسيحيّة وسطيّة.

غرقت في الصمت والتأمّل، رفعت عيني عن  ثقب الباب، فأغمضت قلبي دون  عينيّ لكي يجمع صُوَرَ الحقيقة في عروقه.

بعد شهور أصابها مَرضٌ شديد، فصار لحمها نيّا، وجلدها لآصقٌ بأضلاعها وعظامها، وَدَوَى في تنفّسها الإضطراب، فصارت كأنَّها ممزوجة بالشَّفقة، أمضت تُحَدِّث القصر وتبكي، فانتهت ميّتةً على كرسيها الخيزان الهزّاز، فأسلمت نفسي لليأس بعدها.

عملت مدّةً قصيرةً في هذا القصر المغلق على أسرار كبار البلاد، الذي تتمايل فيه قدود المومسات مُلهبةً جدران الأسمنت المطليّة بأفخر أنواع الدهان، واللاتي يفوح غنجهن في فضاء المكان، وقفت مؤدياً عملي التعيس، لأشاهد في جهة مقابلة لهنَّ تاجران عربيان على طاولة النرد يكرعان الخمر بشراهة .. أجساد مائلة مميلة، وتاجران يرفلان في النعيم، ويبذلان المال بسخاء على تلك الأجساد والكؤوس، وعلى بوابة القصر يقف الحرس والعَوَنة الظالمين ينعتون المارين بكل قبيحة.

على طاولة التاجرين جريدة تتوسط الكأسين الذهبيين، تحمل خبراً عنوانه (موت عائلة عربية بسبب نقص الدواء).

 يقوم التاجر الأول بقلب الجريدة على الخبر ويوقع على شيك ليصرف لعلاج لاعب كرة قدمٍ عربي.

يسحب التاجر الثاني الجريدة، وينظر في الصفحة الأخيرة ليقع بصره المتخبِّط على عمودٍ مُيز بلون خاص عنوانه (غَزَّة تحت النار) يقلب هو الآخر الجريدة على المقال، ويسحب هاتفه متصلاً:

- أحجزوا للراقصة فلانة إلى القصر قبل ارتفاع النار في البلاد المجاورة للاحتلال.

خرجت من القصر رافضاً استمرار عملي فيه، رأيت النهار شيخاً وَسّع لي حضوره، لأرى الرياض كأرضٍ ملأى بالغياب، فدخلتها أبحث عن رزقٍ آخر.