ويهلك الحرث والنسل
محمد الخليلي
( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام . وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لايحب الفساد . وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) . البقرة 204-206
بعد أن قرأت أسرة أبي حسام الجزء الثاني من سورة البقرة ، جلست الأسرة لتحتسي الشاي الساخن الشهي خلال جلسة التفسير اليومية ، فسألت أم حسام إن هذه الآية تحيرني ياأبا حسام ، لأنني يمكنني أن أتصور أن هذه الصفات القبيحة يمكن أن تكون عند كافر ، ولكن هل يُتصور أن تكون هكذا صفات عند مسلم مؤمن بالله ؟!
قال أبو حسام : اسمعوا مني جميعا ، هذه الآيات تنطبق على المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون العداوة لهذا الدين الحنيف والمسلمين .
إن سورة البقرة أول مااستُهلت قسمت الناس إلى ثلاثة أصناف : المؤمنين والكافرين والمنافقين .
أول ماتكلمت عنه سورة البقرة صفات المؤمنين المتقين في آيتين قصيرتين مختصرتين كالتالي :
1- يؤمنون بالغيب : أي الأشياء غير المرئية كالله والملائكة والجن والجنة والنار وغيرها .
2- ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون : أي يؤدون فروضهم الخمس على الوجه الذي عرفوه عن حبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم فيخشعون في صلاتهم حق الخشوع ويؤدون زكاة أموالهم ويتصدقون في سبيل الله زيادة عن الزكاة ؛ لأن المنافقين يصلّون وينفقون ، ولكن الله صور لنا صلاتهم ونفقتهم في الآيتين الكريمتين التاليتين : (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولايذكرون الله إلا قليلا ً ) النساء142 ، وفي قوله تعالى : ( ومامنعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسلى ولاينفقون إلا وهم كارهون ) التوبة 54 . ياأحبائي الكرام فالكسل في القيام إلى الصلاة هو من علامات المنافقين ، كذلك أن يتصدق المرء وهو كاره فذلك من علامات النفاق .
3- والذين يؤمنون بما أنزل إليك وماأنزل من قبلك : أي حتى تتحقق شروط المؤمنين المتقين فلابد لهم أن يؤمنوا بالكتاب الذي أنزل
2
على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم . وكذلك عليهم أن يؤمنوا بالكتب السماوية السابقة والتي أخبرنا عنها القرآن الكريم كتوراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داوود وصحف ابراهيم عليهم جميعا ً وعلى نبينا محمد أزكى الصلاة وأتم التسليم . فاليهود والنصارى مثلا لايؤمنون بالقرآن الذي نزل على محمد عليه الصلاة والسلام . أما المسلم الحق فعليه أن يؤمن بجميع الرسل السابقين وكتبهم امتثالا ً للآية الكريمة من خواتيم سورة البقرة : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير . البقرة285
4- وبالآخرة هم يوقنون : وهكذا يكتمل إيمان المسلم بإيمانه بيوم الحساب ، فالعقل لايحتمل ألا يكون هناك يوم للجزاء والتقاضي ، والله يقول في سورة المؤمنون : (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لاترجعون ؟ ) ، المؤمنون 115، بالفعل فإن الحياة والخلق كله عبث إذا لم يكن هناك يوم يُجزى فيه المحسن على إحسانه فيدخله الله الجنة ويُجزى المسيء على إساءته فيعذبه الله في النار يوم القيامة . وإن هذا الصنف من الناس الذين نتكلم عنهم أعني المنافقين خالدون مع الكفرة في النار ، بل إنهم في الدرك الأسفل منها لما ورد في سورة النساء ) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ) النساء 145 ، هذه هي صفات المؤمنين المتقين بإيجاز كما استُفتح بها القرآن الكريم .
أما صفات الكفار فقد لخصتها فواتح سورة البقرة في الآيتين التاليتين
( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لايؤمنون ، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ) البقرة 6-7
فإنذار هذا الصنف من البشر غير مجدٍ لأن الله قد ختم بالران على قلوبهم وسمعهم فلا يسمعون الحقيقة ولا يعون كنهها ، كما غطى على أبصارهم بغشاوة فلا يروا الحقيقة ، حقيقة الإيمان فضلا ً عن أن يؤمنوا بها ، لذلك سيجازيهم الله بالعذاب الأليم في النار يوم القيامة بما كذبوا وكفروا .
وهذا الصنف من الناس بائن الكفر ظاهر العداوة ، أما الصنف الثالث الذي نحن بصدده فهو صنف المنافقين وهو الصنف الخطِر على جسم
3
الأمة الإسلامية لأنهم دخلوا في الإسلام ظاهرا ً ولكنهم أبطنوا الكفر وأضمروا العداوة للإسلام والمسلمين ، وهاكم صفاتهم :
1- ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) يدَّعون بأفواههم أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر ولكنهم غير مؤمنين في الحقيقة . والله يتكلم عن صنف مشابه في سورة الحجرات فيقول : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ، وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم من أعمالكم شيئا ً إن الله غفور رحيم ) الحجرات 14
2- ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) ؛ أي أنهم يحاولون أن يخدعوا الله والمؤمنين بإيمانهم الزائف ، ولكن أنى لهم هذا والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؟ ثم إن الله عندما يبين صفاتهم للمؤمنين في كتابه العزيز عندها لاتخفى خباياهم على فريق المؤمنين . والله في موضع آخر من سورة النساء يتعرض إلى مثل هذه الصفات في سرد رائع مماثل فيقول عز من قائل : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) النساء 142 وهذه الآية هي صدر الآية التي أسلفنا بها قبل قليل عن صفات صلاة المنافقين . وأريد أن أعلمكم قاعدة مهمة وهي أن أفضل تفسير للقرآن هو التفسير بالقرآن نفسه ؛ لذلك تروني كثيرا ماآتي بالمثل التفسيري من القرآن نفسه .
3- في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) . يبين الله عز وجل سبب ولوجهم عالم النفاق أنه بسبب مرض قلبي ، فالران قد غلف قلوبهم بما كانوا يكسبون فزادهم الله مرضا فوق مرضهم لأنه يعلم في علمه الأزلي أنهم لن يعودوا إلى حظيرة الإيمان بما أسرفوا على أنفسهم من ذنوب .
4- (وإذا قيل لهم لاتفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) : وهذه الآية تفسرها وتشابهها الآية التي نحن بصددها ) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) . وتلاحظون ياأبنائي كيف أن الآيات القرآنية يكمل بعضها بعضا ويفسر بعضها بعضا ً .
5- ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لايعلمون ) رغم أنهم يظهرون الإسلام لكن تندّ عنهم في بعض الأحيان عبارات كفرية فيسخرون من الذين
4
آمنوا ويسمونهم السفهاء ، ولكن الله عز وجل يرد عليهم قيلتهم بأنهم هم السفهاء ولكن لايعلمون , وهم كثيرا مايسخرون من فقراء المسلمين فيصور الله ذلك في سورة براءة بقوله تعالى : ( الذين يلمزون المطَّوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لايجدون إلا جهدهم فيسخرون سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) التوبة 79 ، فإذا مارأيت ياولدي مسلما ً ما يسخر من المؤمنين فاعلم أن هذه علامة من علامات المنافقين .
6- ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ، الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) . فهم كما سبق وقلنا يُظهرون الإيمان للمؤمنين ولكنهم إذا اجتمعوا مع أوليائهم من شياطين الكفرة قالوا إنما نحن نستهزىء بالمؤمنين ولكنا معكم قلبا وقالبا ، ولكن الله عز وجل يرد عليهم باستهزائهم استهزاءً منه جل وعلا ، وعلاوة على ذلك يازوجتي العزيزة يزيد هم عمىً فوق عماهم . وفي موضع آخر من سورة البقرة نفسها يقول في آية مشابهة ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ) . وهنا يتكلم الله عز وجل عن أهل الكتاب الذين عرفوا أن القرآن حق وأن الرسول حق ولكنهم أبوا أن يؤمنوا ، ولاحظوا معي ياأولادي الأحبة كيف تتشابه صفات المنافقين والكفار في كثير من الصور .
ثم يبين الله تعالى في تشبيهات وصور رائعة يرسمها في لوحات فنية لاأبهى ولا أروع حال هؤلاء المنافقين المخادعين فيقول عنهم :
1- إنهم قد باعوا الهدى الذي تذوقوه في واحة الإيمان بالضلال والكفر لذا فإن تجارتهم خاسرة ، والقرآن العظيم كثيرا مايستعمل هذا التشبيه ؛ أي البيع والشراء في حال تبيين إيمان المؤمنين باستبدالهم الكفر بالإيمان ، وحال المنافقين والكفار الذين يشترون الضلالة بالهدى فيقول في حال الفريقين :
( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ) البقرة 175، هذا في وصف أهل الكتاب الذين يكتمون ماأنزل الله من بشارات لنبينا في كتابهم .
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل
5
والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) التوبة 111
والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن العظيم لفريقي المؤمنين من جهة والكفار والمنافقين من جهة أخرى في بيوعهم .
2- ثم يمثل الله حالهم في دخولهم عالم الإيمان ثم خروجهم منه كمثل إنسان في الظلماء أوقد نارا فأضاءت ماحوله ثم أطفأهذه النار عمدا فرجع ثانية إلى الظلمات ، ولاحظوا معي ياأولادي أن الله سمى بداية الإيمان نارا ثم يصبح نورا لأنه يضيء للمسلم كل جوانب حياته ، ثم إنه أفرد النور ، لأنه لا نور إلا نور الله فهو نور واحد لاثاني له ، أما حين يتكلم عن الظلام فيأتي دائما بصيغة الجمع ( ظلمات) ، فهي ظلمات كثيرة ظلمة الكفر والنفاق والهوى والشهوة ، وكثير من الظلمات الأخرى ، وهكذا في كل القرآن الكريم لايرد النور إلا مفردا والظلمات إلا جمعا ً . يقول الله عز من قائل : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة 257 ؛ لذا فهم في هذه الحال من الظلام صمّ وبكم وعمي سادرون في غيهم لايستطيعون العودة إلى الإيمان .
3- وأخيرا يشبِّه حال هؤلاء المنافقين الذين يتلجلجون ويتذبذبون بمن يستضيء بضوء البرق الذي يكاد يذهب بسمعم وأبصارهم التي عطلوها عن سماع الحق ، فهم يتخبطون في حياتهم كحال الذي يستضيء بالبرق فيمشي قليلا ثم يتعثر كثيرا إلى أن تصل به الطريق إلى نار جهنم والعياذ بالله . والله في سورة النساء يصفهم بالتالي : ( مذبذبين بين ذلك لاإلى هؤلاء ولاإلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ً ) النساء 143
ساجدة : ألم يتكلم القرآن عن حال هؤلاء المنافقين في غير هذه المواضع ياأبتي ؟
الأب : بلى يابنَيَّة ، فعلاوة على الشواهد القرآنية التي سقتها من سور كالبقرة والنساء والتوبة فهناك سور أخرى كثيرة عرَّتهم وفضحتهم وبينت صفاتهم .
حسام : مثل سورة المنافقون التي سميت باسمهم وبينت كثيرا ً من صفاتهم الخفية .
6
الأم : أريد ان أضيف نقطة جديدة بأن سورة التوبة تسمى أيضا سورة براءة ولايجوز للمسلم أن يبدأها بالبسملة لأنها تبدأ بالتبرأ من المشركين الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أضيف أيضا ً أن سورة براءة هي أكثر سورة فضحت وكشفت خبايا المنافقين لذلك من أسمائها الكاشفة والفاضحة ولها أسماء عديدة أخرى، وهي تتكلم عن حال المشركين الذين تخلفوا عن رسول الله في ساعة العسرة .
ساجدة : وما هي ساعة العسرة ياأماه ؟
الأم : هي غزوة تبوك نفسها .
ساجدة : نعم ، تذكرت لقد درسنا غزوة تبوك هذه السنة الدراسية .
الأم : ألا تود أن تضرب لنا أمثلة عن الذين يسعون في الأرض فسادا ويهلكون الحرث والنسل بعد هذا الاستطراد الطويل والذي أشهد أنني أفد ت منه كثيرا لأنني لم أكن أعرف هذه التفصيلات عن المنافقين والآيات التي تناولتهم ؟
حسام : نعم ياأبتي أريدك أن تسقط أمثلة من الواقع على هذه الآيات التي تبين أحوال المنافقين ، لكن حاذر ياأبي أن تنكسر الأمثلة حتى لاتحزن عليهم أختي ساجدة .
ساجدة ( تنظر إليه شذرا ً ) : سامحك الله ياأخي فأنا لاأريد ان أدخل معك في مراء لأنني محقة , وأريد أن يضمن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتا في الجنة .
الأم : أحسنت ياساجدة .
الأب : سأقص عليكم بعض القصص من واقع الحياة لا من الخيال ، فكل ماسأقصه عليكم قصص واقعية ، ولكن اسمحوا لي أن نؤجل ذلك للغد ؛ لأنني مصاب بالزكام وتلاحظون من صوتي أنني متعب كثيرأ ، لذا أرجو منكم أن تأتوني بعصير الليمون عساه يخفف عني قليلا ُ ، وإلى اللقاء غدا أستودعكم الله الذي لاتضيع ودائعه .
وفي صبيحة اليوم التالي اجتمعت الأسرة على مائدة القرآن الكريم لتلاوة جزء منه والوقوف على بعض المسائل وتفسيرها والإجابة على استفسارات الزوجة والأولاد .
ولكنهم في هذه المرة بدأوا بالتفسير لإكمال ماتبقى من قصص وعدهم الأب أن يقصها عليهم عن الذين يهلكون الحرث والنسل ويسعون في الأرض فسادا رغم أن كلامهم في الحياة الدنيا يعجب الناس ويحلفون بالله
7
على نقاء قلوبهم وسرائرهم بالرغم من أنهم ألد خصوم المسلمين وأعدى أعداء المؤمنين .
ساجدة : كيف أصبحت ياأبي ؟
الأب : الحمد لله بألف خير ونعمة من الله عز وجل .
حسام : هل استرحت من الزكام ياأبتي ؟
الأب : قليلا ً ما ولله الحمد والمنة ، فالزكام ياولدي حسام قد يستغرق أسبوعا ً ، ولكن الأيام الأولى تكون أصعب مايكون لأن الفيروسات تكون ماتزال نشطة ، وهذه الأيام لقد تعديتها والحمد لله ، ولكن بقي عدة أيام حتى يتخلص الجسم تماما من هذه الفيروسات .
ساجدة : هل تناولت أدويتك ياأبي هذا اليوم ؟
الأب : ليس بعد ، جيد أنك ذكرتني بها ، هل لك أن تحضريها لي ؟
ساجدة : بأمرك ياوالدي .
حسام : أما أنا فسأحضر لك الماء .
الأب : (وهو يتناول الدواء ) شكرا لكما ياولدي الحبيبين .
ساجدة وحسام بصوت واحد : بالهنا والشفا ياوالدنا الحبيب .
تدخل الأم وهي تحمل صينية فيها كؤوسا مليئة وهي تقول : لقد عملت لكم خلطة من البابونج والزهورات ، وهذه مفيدة جداً لمرض الزكام ، وهي أفضل بكثير من المنبهات كالقهوة والشاي.
تقوم ساجدة فتأخذ من أمها الصينية وتوزع على كل فرد من أفراد الأسرة كأسه الساخن وتقول لأبيها بالذات : الله يكتب لك به الشفاء ، فيردد الجميع آمين .
الأب : حان الآن موعد التفسير .
حسام : أنا أنتظر سماع هذه القصص على أحر من الجمر .
ساجدة : وكذلك انا أنتظرها بفارغ الصبر .
الأم وأنا في شوق لسماع تفسير هذه الآيات الكريمات ياأبا حسام .
الأب (وهو يرشف رشفة من البابونج ) : حاضر ياأسرتي الكريمة .
سأبدأ بتفسير الآيات الكريمات : فمن الناس أي من مؤمنهم أو كافرهم .من يعجبك قوله في الحياة الدنيا : أي في أمور الدنيا وأسباب المعاش ، تعجبك فصاحته وطراوة ألفاظه في الدنيا ، ولايعجبك في الآخرة؛ لما يعتريه من الدهشة واللكنة أو لايُسمح له بالكلام .
الأم : هل لهذه الآية سبب نزول ياأبا حسام ؟
8
الأب : نعم يازوجتي ، نزلت في الأخش بن شريق فقد أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مظهرا ً إسلامه ثم خرج فمر بزرع لأحد المسلمين فأحرق الزرع وعقر الحمير .
حسام : هل فيه خاصة أم يمكن تعميمها ؟
الأب : فيه خاصة ، ثم في المنافقين عامة ، وهذا يسمى عموم اللفظ وخصوص السبب .
وهو ألد الخصام : أي شديد المخاصمة بالباطل ، فشدة الخصومة من صفات المنافقين .
الأم : هل ورد عن رسول الله حديث في ذلك ؟
الأب : أجل ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم :( أبغض الرجال إلى الله الألد الأخصم ) .
وإذا تولى : أي إذا أدبر أو ولي أمور الناس سعى أي أسرع في المشي أو العمل ، في الأرض ليفسد فيها : أي ينشر الفساد في الأرض ، ويهلك الحرث والنسل : كما فعل الأخش وكما يفعله ولاة السوء من إتلاف الزرع وقتل النفس .
الأم : أتسمح لي أن أضيف إضافة ؟
الأب : تفضلي ياأم حسام .
الأم : قـُرئت أيضا ً ويهلِك الحرثُ والنسلُ .
الأب شكرا ً ، والحرث : الزرع ، والنسل : كل ذات روح ، وقيل الحرث : النساء والنسل الأولاد ، وقيل الحرث الدين والنسل الناس .
ساجدة : هل تنطبق هذه الآية على اليهود الذين يقتلون الأبرياء ويهلكون الحرث ؟
الأب : طبعا ، فإن الأطفال والنساء والشيوخ الذين يقتلونهم ، وإن آلاف الهكتارات التي يجرفونها من أرضي الفلسطينيين الزراعية هي قمة الإهلاك . كل إهلاك للحرث والنسل في الدنيا عبر التارخ وراءه مكر يهود.
حسام : وما هي باقي علاماتهم ؟
الأب : اسمع تفسير هذه الآية التالية : وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ؛ أي صار مأخوذا أسيراً بالحمية بما اقترف من الإثم . وفي الحديث الذي رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم :( إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه اتق الله تعالى فيقول : عليك بنفسك عليك بنفسك ) .
9
الأم : نسمع عبارات مشابهة كأن يقول : أنا أعرف الدين فلا تعلمني ، أو أعرف الدين أكثر منك ، فهل هذه من العزة بالإثم ؟
الأب : أجل ياأم حسام ؛ لذلك على المرء أن ينتبه إلى مايقول ، فلا يقع في مزالق الشيطان .
ساجدة : لقد وعدتنا أن تقص علينا قصصا من واقع الحياة عن هذا الصنف من الناس .
الأب : بل سأختصرها إلى قصة واحدة لأنني مازلت مرهقا ً من الزكام ، ولأننا استطردنا كثيرا البارحة في تفسير آيات المنافقين واليوم في تفسير آيات من البقرة .
حسام : حسنا ، حدثنا فكلنا آذان صاغية .
الأب : أعرف مسلما أربعينيا ً يحافظ على صلاة الجماعة ، وإذا جلس بين الناس يبهرهم بكلامه المنمق ، ويتحدث عن أمور الدنيا كثيرا لأنها أكبر همه ومبلغ علمه ، ويقسم الأيمان الغليظة على صدق نيته ونظافة سريرته . ظل يخادع الناس بمكره ودهائه عَقدين من الزمن وهم يصدقونه بل وصل البعض إلى درجة أنه يناديه يازعيمنا ، مما يزيد في عنجهيته وغيه ، ولكن دون أن يكتشفه أحد . كما قلت لكم إنه يطبق كل شعائر الإسلام أمام الناس ، ولكنه إذا خلا مع قرناء السوء انتهك محارم الله . وظل يراءي أمام الناس ردحا كبيرا من الزمن ، وإن كثيرا ممن يعرفه كان يستشيره في أموره الخاصة ، ولم يستطع أحد أن يكتشف نفاقه وسوء نيته خلال هذه الفترة الطويلة من الزمن بسبب حلاوة لسانه وطلاوة ألفاظه وتأنقه في الحديث عن أمور الدنيا ، ولكن ، ثم سعل الوالد سعلة شديدة وأردفها بتسع عطسات .
الأم : يرحمكم الله .
الأب : يهديكم الله ويصلح بالكم ، وقبل أن يبدأ الكلام من جديد عطس عطستين أخريين .
حسام : يرحمك الله .
الأب : يهديكم الله ، ثم عطس عطسة أخرى .
الأم : يشفيك الله ، وأفضل يازوجي العزيز أن ترتاح قليلا ثم تكمل لنا قصة المنافق .
ساجدة : لا والله ، أريد أن أسمع تتمة القصة وإلا سأبكي .
الأب : كل شيء إلا أن تبكي حبيبتي ساجدة ، سنكمل القصة إن شاء الله ولكن بعد أداء صلاة الضحى .
10
وبعد أن أدوا صلاة الضحى ، قالت ساجدة وصلنا ياأبي عند كلمة ولكن .
حسام : ياساجدة كلمة لكن لايمكنها أن تذكره أين وصل في القصة .
ساجدة : أنت تعلق على كل كلمة أقولها ولو كانت صحيحة .
حسام : لو قلت شيئا صحيحا لما علقت عليه .
الأم : ألم نتفق على عدم المراء في المرة السابقة ؟
الأب : حسنا ، كلاكما على حق .
ساجدة وحسام معا ً : كيف ؟!
الأب : بشكل عام مايقوله حسام صحيح ؛ فكلمة لكن لاتعطي أي مدلول لتتمة القصة ، وبشكل خاص ماقالته ساجدة صحيح ؛ لأن كلمة لكن كانت محورية ، بحيث كنت سأنتقل إلى منحى جديد في القصة . لكن في يوم من الأيام شاء الله أن يكشف هذا المنافق .
ساجدة : وكيف ياأبي ؟
الأم : ألم نتفق على عدم المقاطعة ، ولو أنك صبرت ثانية لكان أبوك أكمل لك كيف كشف الله هذا المنافق .
ساجدة : أمرك ياأماه .
الأب : حسنا ً ، في يوم من الأيام كان أناس يريدون أن يخطبوا قريبة لهذا المنافق ، فجاء آل الرجل وتقدموا بخطبة ابنة قريبة المنافق ، وما أن سمع بقصة الخطبة حتى ظهر على حقيقته الشيطانية ، فصار يسعى بين الأسرتين لكي يهدم هذه الخطبة المباركة ويئدها في مهدها . بدأ بالاجتماع مع أهل المخطوبة فيقول لهم إن هذا البدوي الذي خطب ابنتكم لايناسب مقامكم فأنتم سكان المدن لايناسبكم أن تزوجوا بناتكم لبدوي ، ثم إن لي سبعين تحفظا عليه فهو جاري وأنا أعرفه ، من يعرف الرجل أكثر من جاره ؟ إن هذا الرجل إذا تزوج ابنتكم فسيطلقها بعد شهر أو شهرين لأنها لن تستطيع أن تتأقلم مع حياته الخشنة . والله أنا لا أريد إلا المودة في القربى ، ووالله ليس في الأمر ناقة ولا جمل ، إلا أنه يعز عليَّ أن تتم هذه الزيجة وأنا أرى نصب عينيَّ فشلها من الآن ، اسمعوا كلامي ولا ترموا بفلذة كبدكم في أحضان من لايستحقها . ولكم عندي أن أزوجها لأفضل منه بكثير ، ياقوم إني مجرب في الحياة ، وقد عاشرت هؤلاء البدو عشرين عاما فلم أجد صادقا فيهم . ألم يقل الله فيهم في سورة براءة : (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ماأنزل الله على
رسوله ) . ياقوم ، الأعراب كثيرا ماأساؤا لنبي هذه الأمة ، وأنتم جئتم من
11
بلد آخر ولاتعلمون عن هؤلاء شيئا . ياقوم ِ إني لكم ناصح أمين ، فأنا يستشيرني الناس جميعهم وأخلص لهم في النصيحة . ألم يقل الحبيب
المصطفى : الدين النصيحة ؟ إن الناس سموني زعيما لأني أمحض لهم النصح والكل يعرف نقاء سريرتي وصفاء نيتي . واسألوا زوجي عن هؤلاء إن لم تصدقوني . ثم قولوا لي بالله عليكم مالذي يجعلني آتي لعندكم عشرين مرة لذات الموضوع إلا محض النصح لله ؟
وكاد المنافق أن يهدم هذه الخطبة ويقنع أهل الفتاة بعدم أهلية الرجل المتقدم لابنتهم ، إلا أن الله عز وجل شاءت حكمته أن يكشفه بعد أن أفسد في الأرض زهاء ربع قرن.
ساجدة وحسام بصوت واحد : كيف ؟؟
الأب مبتسما ً : لطف الله ياأحبابي ، فبعد أن عاث في الأرض فسادا وقتا طويلا ، شاء الله أن يكشفه على رؤوس الأشهاد وبسبب خطأ صغير ارتكبه .
حسام وساجدة معا : وماهو ؟
الأب : على ر ِسْلكم ، إنه عمل نفس الشيء مع أهل الخاطب تماما ، وخلال تحريات الأسرتين عن بعضها البعض استشاروا شخصا يعرفونه ولما سمع من كلا الفريقين كل على حدة ، قال لهم أريد أن أسألكم سؤالا واحدا ، قالوا وما هو ؟ قال : أليس فلان هو الذي نمَّ إليكم بهذه النصيحة؟ فبهتوا وقالوا : من أدراك ؟ فضحك الرجل وقال : أنا اكتشفت إفساده وعتوه ونفاقه وإهلاكه النسل قبل ثلاث عشرة سنة .
الأم : وكيف ؟
الأب : لقد استعجلتِ ياأم حسام بالاستفسار كما استعجل قبلك ولداك . قال الرجل : لقد سعى هذا المنافق لإفساد خطبة أختي غير مرة ، ولقد اكتشفنا ذلك بمحض الصدفة ومن يومها صرت أتعامل معه بحذر شديد .
الأم : وهل تمت الزيجة ياأبا حسام .
الأب : نعم ، ولله الحمد والمنة ، ثم عطس عطستين وأردف قائلا ً ، وأصبح كل من عرف قصته يتحاشاه اتقاءً لشره ؛ لأنه منذ أن كشف نفاقه أصبح كالوحش الضاري يعض كل من يلقاه . وإلى هنا تنتهي قصة المنافق الذي أعجب الناس كلامه وأشهد الله على ما في قلبه وهو شديد الخصومة لبني آدم ، وكان إذا أدبر أسرع في الإفساد وأهلك الأموال وفرق بين المرء وزوجه والخلِّ وخلـِّه والأب وابنه والأخ وأخيه والأم وابنتها والشريك وشريكه والخاطب ومخطوبته ومابين كل متحابين .
12
حسام : وهل محاولته فسخ الخطبة تـُعدّ إهلاكا للنسل ياأبتي ؟
الأب : نعم ياولدي .
حسام : ولكن كيف ولم يتم الزواج أصلاً ؟
الأب : هو مثـَله كمن يئد الزيجة في مهدها .
الأم : ولكن لم يحصل زواج لينشأ عنه نسل .
الأب : حسنا ، إن هذا الزواج كان من الممكن أن ينشأ عنه نسل .
الأم : من الممكن أن تتزوج هي ويتزوج هو من غيرهما .
الأب : قد يحصل ذلك ولكن في بعض الأحيان ، تتكرر هذه المنغصات عدة مرات من نفس المنافق أو من غيره ، فما تلبث الفتاة أن تدخل سن العنوسة وتُحرم من الزواج طيلة حياتها .
الجميع بصوت واحد : يالله إلى هذا الحد ؟؟!!!