أوراق من سيرة آدم
فصل في حكاية نصيحة جدي
هادي الربيعي
جدي لأُمي يمكن وصفه بأنه الطيبة الكاملة التي تمشي على الأرض ، رجل بسيط ولكنه مثابر، لم أشاهده متبرماً من أي شيء في كل الأوقات ، ابتسامة شاحبة يقابل بها ما يأتيه من كوارث وكأنه كان على موعد سابقٍ معها، قابل الحياة بما يشبه السخرية فعاقبته الحياة بموت يشبه السخرية ، وكنت معه في آخر مراجعة لأحدى المستشفيات وعندما زرق له احد المضمدين إبرة العلاج كان بحاجة لبعض الراحة لقوة الدواء الذي لم يستطع أن يحتمله ولكن احد العاملين في المستشفى صرخ بوجهه طالباً منه الخروج ودفعه بقوة وهو يحاول إنهاضه وعندما نهض سقط على الأرض وفارق الحياة ببساطة غريبة ، كان يقول دائماً ، النساء ناقصات عقول ، ولا أدري كيف عاش طوال حياته وهو في خصام دائم مع المرأة التي شاركته رحلة حياته الطويلة ، ولقد أدمن المشاكسات حتى اصبحت جزءاً لا يتجزأُ من يومياته ، فلم تعد تثيره العواصف مهما اشتدت ، وكان يقابل الإنفجارات الداخلية برباطة جأش ما زلت احسده عليها ، بل انه كان يبتسم في معظم الأحوال وهو يهمس لي بين الحين والآخرأثناء حدوث مثل هذه الإنفجارات : الم أقل لك ان النساء ناقصات عقول ؟
ذات يوم همس في اذني : اريد ان اقدم لك نصيحة تنفعك في حياتك ، وكنت حينها في بداية حياتي الزوجية ، قلت له : قل يا جدي ، فاجاب بصوت هامس : ليس هنا أخشى ان تسمعني زوجتك فتكرهني طوال ما تبقى من حياتي فلنذهب الى مقهى المفرق ، وكان المفرق أحد الأحياء التي تشكلت حديثاً بعيدا عن مركز مدينة بعقوبة بكيلومترات قليلة ، وسرنا طوال الطريق الى المقهى وهو صامت وكان غالباً ما يظل محدقاً في الأرض اثناء صمته الذي يمتد احياناً وكنت لا أجرؤ ان اقطع عليه هذا الصمت فاظل صامتاً أنا الآخر ، حتى يكسر صمته الطويل فاعود الى مشاركته في الحديث ، جلسنا على احد الأسرّة المصنوعة من جريد النخل وكانت اغلب مقاعد المقاهي تُصنع منه في ذلك الوقت ، اعني قبل أكثر من اربعين عاماً ، وشربنا قدحين صغيرين من الشاي الأسود السنكين ، همس بعد ان أخذ رشفة من قدح الشاي ، النساء بيت البلاء، انهن ناقصات عقول ، ومسكين من يخضع لرغباتهن ، ألم تسمع عن آدم كيف خرج من الجنة بسبب عقل إمرأة ؟ قلت : سمعت ُ يا جدي ولولاها لكنا جميعاً في الجنة قال ضاحكاً عليك نور يا ولدي ها انت بدأت تفهم ما اقول ، اقدم لك نصيحتين ضعهما (ترجية) في أذانك واحذر ان تنساهما ، والترجية كما تعرفون حلية توضع في إذن المرأة بعد ثقبها ، وقد بلغ من حب والدتي لي انها ثقبت أذني ووضعت لي تراجي لتؤكد لصديقاتها مدى محبتها لي فأنا أول ابنائها ورغم مرور هذا العمر الطويل مازال الثقبان يأبيان مغادرة أذني وكم سبب هذا لي من إحراج مع الفتيات اللواتي كن يتسلين بأذني ويتضاحكن وهن يعبثن بالحلية الفقيرة التي وضعتها امي في اذنيَّ ، قال جدي :
االنصيحة الأولى ، لا تشعر زوجتك ابداً انك تحبها ، قلت : كيف هذا يا جدي اعتقد انني إذا اظهرت لها حبي فانها ستزيد حبها لي قال ضاحكاً اعتقد ما تشاء ، انك قد لا تفهم هذا اليوم ولكنك ستفهمه غداً ، وحين تخوض غمار المصائب التي تنتظرك في الطريق ستتذكرني وتقول رحمك الله يا جدي كم كنت مُصيباً ، وبداية مصائبك في خضوعك لزوجتك اوصيك ان تتذكر هذا ، حدقت في وجه جدي طويلاً وأنا أحاول اكتشاف ما وراء نصيحته ، ولكن خبرتي في الحياة كانت اقصر من ان تصل الى قامة هذه النصيحة التي لم استوعبها تماماً ، حسنا يا جدي اقول لك انني سمعت النصيحة ولا أدري ان كنت مؤمناً بها ولا أدري ان كنت ساطبقها او سأكون غير قادر على تطبيقها في حياتي قل لي حكمتك الثانية قال : لا يا ولدي عدني ان تتذكر هذه النصيحة ، تذكرها دائماً لا أستطيع ان افرض عليك العمل بها ولكنك ستعمل بها ، ستكون مضطراً لذلك وأنا أختصر لك المسافات وأختزل لك التجارب فلماذا تضيّع هذه الفرصة ؟ ستقول ذات يوم رحمك الله يا جدي ، قلت : سأقول ذلك بالنصيحة او بغير النصيحة قال : بل ستقول ذلك بسبب النصيحة أنا واثقٌ من ذلك قلت: اعدك انني سأتذكر ياجدي فقل نصيحتك الثانية ، طلب قدحاً آخر من الشاي وأخذ رشفة منه ثم قال : إذا رأيت غريقاً يستنجد بك فاحذر ان تنقذه وتمد يدك إليه ، نظرت الى جدي مستنكراً ، ما هذا يا جدي ؟ ألست مساماً ؟ هل يقول الإسلام اتركوا الغريق يغرق حتى يموت ؟ اين الإنسانية يا جدي ، هل تريدني ان اخرج من الإسلام بسبب نصيحتك ؟ ضحك وهو يقول : هكذا أنتم دائماً لا تنظرون الى ما هو ابعد من أنوفكم قلت بصوت لفت أنظار بعض الجالسين في المقهى : إقنعني يا جدي ، غريبٌ ما اسمعه منك ، لقد شاء الله ان يجعل الغريق غريقاً لأنه يستحق ذلك ، هناك عقابان ، عقاب الدُني وعقاب الآخرة ، وبعض البشر ينصب عليهم غضب الله في الدُنيا فهل تستطيع أنت ان تنقذ انساناً اراده الله تعالى هكذا لحكمة ٍ لا نفهمها نحن ، انها حكمة الله يا ولدي ، مهما حاولت سيغرق لأن الله اراد له الغرق فكيف تخالف إرادة الله تعالى في خلقه ؟ من أنت َ لتفعل ذلك؟ قلت : يا جدي انت تعرف انني احبك ، وتعرف كم أحبك ، قد اقتنع بحكتك الأولى في يومٍ ما، اما حكمتك هذه فلا اعتقد انني استطيع الإقتناع بها قال ستقتنع بها ذات يوم وستقول رحمك الله يا جدي على حكمتك الغالية وتمر السنوات سنة تطوي اخرى ، وكلما تلاشت ملامح جدي من مخيلتي ، توهجت نصيحته وكأنها معدنٌ نفيس ٌ يزدادُ بريقاً مع تقادم الزمن ، وحقيقة الأمر إنني لم أتعمد عدم إظهار محبتي لزوجتي ، ولكن الظروف هي التي صنعت ذلك فقد نُقلت نقلاً سياسياً الى مدينة بعيدة وعندها رفضت زوجتي القدوم معي لتظل قريبة من اهلها ، وهكذا تكشف الحب الذي كانت تظهره لي على شكل مصائب لم أتوقعها إطلاقاً ، وبقيت أكثر من سنتين وأنا أعاني من معضلة عدم قدومها ، وحين يقول جدي ان النساء ناقصات عقول ، فهو محقٌ في ذلك فالتبريرات التي تقدمها المرأة أحياناً مقابل حجم المشكلة التي تعيشها أنت على أرض الواقع ، لا تبدو ساذجة فحسب بل انها مثيرة للسخرية فتهمس بالمثل الذي يقول وأنت تضحك (عرب وين وطمبورة وين) وحكاية هذا المثل تقول ان رجلاً تزوج إمرأة اسمها طمبورة وكانت خرساء وقد علمها الرجل انه اذا ارادهُ ما يريد الرجل من زوجته سيرفع لها أذيال ثوبه دليلاً على ذلك ، وحدث إن غزت احدى القبائل عشيرة الرجل فعاد الى البيت وهو يلهث باحثاً عن بندقيته ليساهم في رد الهجوم مع ابناء عشيرته فرفع ذيل ثوبه وعلقه في حزامه وهو يحاول الوصول الى بندقيته وعندها استلقت طمبورة على الفراش دون ان تعرف حكاية الهجوم فضحك الرجل وهو يهز يديه ويقول (عرب وين طمبوره وين) والحكمة التي ما زالت أصداؤها تأتي من الماضي البعيد ما زالت تتوهج وكأنها قد قيلت بالأمس ، أدرك الآن لماذا تبقى الأمثالُ خالدةً في ضمائر الناس وقلوبهم ، والسبب بسيط لأنها تختزل حكمة البشر ، وتضيء الطريق دائماً أمام الأجيال الجديدة ، وكلما كمن فيها المعنى ألأقوى و الحكمة الأبلغ زادت قدرتها على البقاء تحت مطارق الزمن ، نعم كلما ابتعدت عن المرأة تعلقت بك أكثر ، لأنها تظل في خوف دائمٍ من أن تفقدك ، وأنت بهذا الإبتعاد تزرع هواجس كنت تتمنى لو انك زرعتها منذ أمد ٍ بعيد لتحصد نتيجة أفضل في حياتك ولقد تحققت نبوءةُ جدي حقاً فها أنا اقول بعد أكثر من خمسين عاماً ، فليرحمك الله يا جدي على نصيحتك الغالية التي لم اعرف قيمتها إلا متأ خراً ، وتلك هي مصيبتي فأنا المتأخر دائماً كما تعرفون ، وأنا المتشكك دائماً ، وقد حاولت تسجيل هذه الهواجس والشكوك في احدى القصائد فقلت:
وما مستقري بأرض الرياح ألاّ رياحٌ بلا مُستقرْ/span>
رحيلٌ بروحي في اللامكان وفي اللازمان قديم الأثرْ
جوادي يطوي رحاب الوجود وتحسبني واقفاً في السفرْ
ثمة صفحاتُ طويلة تنتظر ان أصل اليها لأسرد بعض جوانب هذه الحقيقة بشكل آخر، ولا أدري لمَ أرى هذا مهمّاً مع عدم إقتناعي باهميته ، ولكنها في كل الأحوال نوعٌ من محاولة الوصول الى اقرب الحافات من قلب الحقيقة وهذا ما أحاول ان أفعله واشك انني قادرٌ على ذلك.