وردة واحدة .. لا باقة كاملة

الكاتب المبدع

د. هوار بلّو /العراق

[email protected]

جلس الملك على عرش سلطانه و حوله وزراؤه و مستشاروه ، يتجاذبون أطراف الحديث بعيداً عن هموم البلاد و العباد .. و فجأة دخل الحاجب ليفسد عليهم بهجة الحديث و انحنى أمام الملك قائلاً :

- أيها الملك المبجّل .. خلف الباب رجل يريد المثول بين يديك ، يدّعي أنّ معه خبر مهم يريد إيصاله إلى جلالتك .

 فتعكر مزاج الملك ، ثم هزّ رأسه مشيراً له بإدخاله .. و بعد هنيهة دخل رجل مهاب و انحنى بقامته الطويلة أمام الملك ثم قال :

- أيها الملك المبجّل .. أنا قادم إليك من غابة في ضواحي المملكة حيث عثرتُ هناك على حمار سائب يحمل على ظهره أسفاراً كثيرة يحوم حول جثة صاحبه المقتول . و الظاهر أنّ الرجل كان في رحلة إلى خارج المملكة و معه حماره فتعرّض لحادث سطو مروّع على أيدي قطاع طرق غرباء عن المملكة فقتلوه و أخذوا ما بحوزته من أمتعة غير الأسفار .

 فقال الملك مستفسراً :

- وماذا صنعتَ بهما ؟

 فأجاب الرجل في هدوء :

- ما كنتُ لأقدم على فعل شيء قبل أنْ أطْلِعَ جلالتكم على الأمر !! فكل ما فعلْتُهُ يا مولاي أنني غطيتُ الجثة و أخفيتُها عن أنظار الدواب و الطيور ، و ربطْتُ الحمار بجذع شجرة قريبة حتى لا يبتعد عن المكان ، و لكم الأمر من قبلُ و من بعدُ يا جلالة الملك .

 أدار الملك رأسه نحو مستشار له كان جالساً بالقرب منه ، ثم قال :

- خُذْ جندك أيها المستشار و ليدلك الرجل على موقع الجريمة ، و أكْرِم الجثة بدفنها فوراً هناك ، ثم أعْطِ تلك الأسفار لحكيم المملكة و ليَطّلع عليها واحداً بواحد ثم ليأتيني بعد ذلك ببينة من أمرها .

 و في صبيحة اليوم التالي ، حضر المستشار في ديوان الملك و معه حكيم المملكة و جماعة من العبيد و الخول يحملون الأسفار التي عثروا عليها مع الجثة .

 فتساءل الملك :

- ماذا فعلْتَ أيها المستشار ؟

 فأجاب المستشار :

- أيها الملك المبجّل .. لقد وارينا الجثة الثرى و لكنْ يؤسِفني أنْ أخبرَ جلالتكم أنّ المرحوم بدا مِنْ أسفاره جهبذاً من جهابذة هذا العصر و الزمان . كان واحداً مِن أهل مملكتنا و لكنه لسوء الحظ آثر العيش في الظلام متخفياً و لم نهتدي إلى وجوده إلاّ بعد فوات الأوان ..

 فاستغرب الملك قائلاً :

- وكيف اكتشفْتَ هذا الأمر أيها المستشار ؟

 فأجاب المستشار في عجالة :

- لقد اطّلَعَ الحكيم على أسفاره كلها و عنده الخبر اليقين يا مولاي .

 رمى الملك ببصره صوب الحكيم و قال :

- هاتِ ما عندك أيها الحكيم .

 قال الحكيم و هو يحاول أنْ ينتقي كلمات مؤثرة :

- أيها الملك المبجّل .. لقد أمضيْتُ ليلتي و أنا أطّلِعُ على هذه الأسفار ، و إنْ كنْتُ قد أنجزْتُ ذلك في عجالة لضيق الوقت ، لكنّ المرحوم كما ــ تفضّل جناب المستشار ــ بدا مِن أسفاره و كتاباته جهبذاً من جهابذة هذا العصر ، و من سوء الحظ أننا لم نكتشف أمره و لم نهتد إلى وجوده بيننا إلاّ الآن .. لقد كان بمقدوره أن يمدّ البلاد و العباد بفيض عطائه الغزير و خبرته التي لا تدانيها خبرة في هذا الزمان لو لم يكن قد آثر العيش في الظلام بعيداً عن الأضواء .

 أيها الملك المبجّل .. إنّ له الآن بحوزتنا سفراً يتحدث فيه عن الفلسفة و مدارسها ، و به فصل تناول فيه نظرته الشخصية إلى الفلسفة و تقييمه الخاص لروّادها على مرّ التاريخ .. و له سفر آخر يتحدث فيه عن قضيّتَيْ الإلحاد و الإيمان و آثار كل منهما على سلوكيات الفرد و تركيبة المجتمع ، و به فصل تناول فيه القضية بمنظوره الشخصي بعيداً عن نظرة الأديان و الشرائع .. و له سفر آخر يتحدث فيه عن علم السياسة و أصول الحكم و طرائقه ، و به فصل تناول فيه فن إدارة الدولة و طرائق التفوق في ممارسته بمنظوره الشخصي .. و سفر آخر يتحدث فيه عن الجبر و الحساب و علوم الطبيعة ، و به فصل يتحدث فيه عن كيفية استغلال هذه العلوم في خدمة الإنسان .. و سفر آخر يتحدث فيه عن علوم الطب و فروعه ، و به فصل تناول فيه الوصفات العلاجية التي اخترعها عن طريق تجاربه الكيماوية الخاصة و التي بإمكانها أن تقدّم العلاج لعشرات الأمراض الفتاكة . و أسفار أخرى كثيرة يتحدث فيها عن الشعر و النثر و الفن و الحكمة و الفراسة و الزهد و التصوف و الورع و الصداقة و الطرائف .. إنه بحقّ لعبقري من عباقرة هذا العصر و جهبذ من جهابذة هذا الزمان !!

 و تساءل الملك في غرابة :

- و أين كان هذا الرجل العظيم بعلمه و كتبه و خبرته التي لا تدانيها خبرة في هذا الزمان ؟ ما السر الذي دفعه إلى التخفي عن عيوننا و العيش وراء الحجب ؟ لو كنت أعلم بأمره لجعلته كبير الحكماء و المستشارين في قصري و لفوضت إليه الكثير من أمر السياسة و الحكم في البلاد ، و لم أكنْ لأتركه يبرح مجلسي لحظة واحدة .. و لكن يبدو أن العلوم التي عجّ بها رأسه قد أضْفت نصيباً وافراً من الانطواء إلى شخصيته ، ففضّل على إثر ذلك العيش في الظلام متخفياً و عدم الخروج إلى النور .

 قال الملك كلماته بمنتهى الأسى ، ثم أمر المستشار بأن يتوجه ببعض الجند نحو قبر هذا الرجل العظيم فيُخرِجَ جثمانه من هذا القبر المتواضع في ضواحي المملكة و يأتي به وسط موكب يليق به و مراسيم تأبينية ترقى إلى مستوى علمه و معرفته ، ثم يدفنه وسط العاصمة في قبر مرصّع بالذهب و الفضة و الألماس ، و يجعل من هذا القبر مزاراً مقدساً تتشرف به المملكة في حاضرها و مستقبلها .. و يقيم له بعد ذلك تمثالاً بالقرب من مزاره و يُفتتح في ظل أجواء تكريمية تليق بشأنه . ثم أوكل إلى حكيم المملكة مهمة نسخ أسفار هذا الجهبذ الهمام بأعداد كثيرة تسد عين الشمس ليوزعها على مكتبات المملكة من أقصاها إلى أقصاها و يجعل من مضامينها مناهج معرفية تدرس في كتاتيب المملكة و مدارسها .. لقد رأى الملك أنّ هذا الرجل العظيم لحريّ به أنْ يعانق اسمه ذرى المجد و تغدو سيرته واحدة من تلك السّير المعدودة التي تتشرف بها المملكة على طول تأريخها و عرضه .

 و هكذا أقيم للكاتب حفل تأبيني قلّتْ نظائره ، و حضر ذووا السّنان من أهالي المملكة مراسيم هذا الحفل التاريخي ، و بُنيتْ على قبره قبة شاهقة مرصعة بالذهب و الفضة و الألماس ، و نُقشتْ عليها بماء الذهب مقاطع كتابية عديدة ، تضمنت إسمه و تفاصيل حياته و أسماء مؤلفاته التي لم تكن قد نُشرتْ إلاّ بعد موته و نصوصاً له في الحكمة و الفلسفة و الشعر استخرجوها من بطون أسفاره المتنوعة .. و لم تمرّ أيام قليلة حتى نُفّذتْ بقية أوامر الملك و أقيم للرجل العظيم تمثال شاهق وسط عاصمة المملكة و رصّعتْ بأجمل الأحجار الكريمة و أثمنها . و هكذا اكتسح اسم هذا الرجل العظيم كل بلد من بلاد المملكة و كل حي من أحيائها في غضون أيام قليلة بعد وفاته و غدت شهرته خبر الساعة الذي يتهامس به الناس في طرقات المملكة و أسواقها و مجالسها .

 و دارت عجلة الحياة أسرع مما كانت ، حتى مرّ أربعون يوماً على وفاة هذا الرجل العظيم ، و في صبيحة يوم أربعينيّته زار حكيم المملكة مزاره استذكاراً له و تعظيماً لشأنه .. و بينما هو واقف يتأمل في النصوص المكتوبة على قبة مزاره .. أحس برجل يُربّت على كتفه و يسلم عليه ، فاستدار الحكيم صوبه و رد عليه التحية ثم قال :

- أهلاً بك .. أراك مثلي تريد أنْ تمجّد فيلسوفنا الراحل صبيحة يوم أربعينيته ؟

 أجابه الرجل في هدوء :

- أقدّره كثيراً يا جناب الحكيم .. فقد كان رجلاً عظيماً و نادراً لن تلد الأرحام له مثيلاً في هذه المملكة بأسرها ؟

 فقال الحكيم و هو يرمي ببصره صوب تمثاله الشاهق الذي يعانق أعالي الفضاء :

- لكنني على خلاف ما تعتقد .. فأنا واثق مِن أنّ مملكة لها ملك كملكنا ستنجب لنا الكثير من أمثاله .. فقلّ أنْ تجد اليوم ملوكاً يهتمون بأمر العلماء و الحكماء و يرفعون شأنهم هكذا في البلاد .. فقد أقام ملكنا المبجّل لهذا الرجل العظيم حفلاً تأبينياً يليق بمكانته العظيمة و جعل له مزاراً استذكارياً مرصعاً بالذهب و الفضة و الألماس .. أضفْ إلى ذلك كله هذا الصرح المعماري الشاهق وسط العاصمة و هو يروي للأجيال من بعدنا قصة عظمته و معرفته التي لا تدانيها معرفة في هذا الزمان .

 أطرق الرجل قليلاً ثم تساءل في هدوء :

- لا شك أنك قرأتَ أسفاره كلها يا جناب الحكيم فأنت كنت المشرف على نسخها و نشرها ؟

 فأجاب الحكيم مبتسماً :

- قرأتها كلها .. بدل المرة عشراً .. إنه لواجب على كل فرد في هذه المملكة أن يقرأ هذه الكتب بعد أنْ نسخناها و وزّعناها في أرجاء المملكة ، فهي تضع بحق أسس الحياة على إيقاع جديد و بأسلوب مغاير إلى أبعد الحدود .

 قال الرجل في هدوء :

- قرأتها أنا أيضاً .. إنها بحق تنقل لنا في بطونها معرفة إنسانية متكاملة لا يعتريها النقص .

 و تساءل الحكيم قائلاً :

- بأيّ سفر من أسفاره تأثّرْتَ أكثر من غيره ؟

 فأجاب الرجل :

- لقد تأثرتُ كثيراً بسفرٍٍ له عنوانه (صرخة رجل أبكم) .

 فاستغرب الحكيم و قال :

- و لكن هذا السفر ليس بسفره .. فأنا لم أسمع بهذا الاسم بين أسفاره مع أنني ــ كما تعلم ــ كنتُ المشرف الوحيد على نسخها و نشرها بأمر من جلالة الملك .

 ابتسم الرجل قليلاً ثم تابع كلماته قائلاً :

- أنت على حق .. فهذا السفر هو آخر سفر له و هو معي الآن و لم يتم نشره بعد أيها الحكيم .. قد لا تعرفني ، و لكنني أكون الرجل الأول الذي عثر على جثة هذا العظيم و مَثُلَ بين يدي الملك ليخبره بأمره .. عندما عثرتُ على جثته تصفحتُ جميع أسفاره على عجالة و رأيتُ أن آخذ هذا السفر معي حتى ينزله الملك منزلة تليق بعلمه و حكمته .. فقد كان بإمكان هذا السفر أنْ يجعل مِن هذا الرجل العظيم ملعوناً يرجم قبره كل يوم ألف مرة بمباركة من الملك نفسه !!

 فقال الحكيم مستغرباً :

- و ما علاقة أخذك لهذا السفر بذلك ؟ إنّ كل سفر من أسفاره قد أضاف شيئاً إلى عظمة هذا الرجل و شهرته ، و أنت باستيلائك على هذا السفر تكون قد منعْتَ إسمه من تسلق درجة أخرى من العظمة و الشهرة !!

 قال الرجل مبتسماً :

- إلاّ هذا السفر يا جناب الحكيم !!

 فقال الحكيم متلهفاً :

- و هل لي أن أعرف عن ماذا تحدث الرجل في هذا السفر ؟

 فأجاب الرجل :

- تحدث فيه عن معاناته التي وجدها على يد ملكنا أثناء مسيرته العلمية العريقة التي ناهزت نصف قرن من الزمان .. لقد ذكر الرجل في كتابه هذا أنه كلما كان ينتهي من كتابة سفر له من هذه الأسفار كان يتقدم بطلب للملك ليوافق على نسخه و نشره في البلاد لينتفع به طلاب العلم و المعرفة في المملكة ، لكن الملك كان يرفض طلبه في كل مرة مدعياً أن أموال المملكة أمانة في عنقه و لا يستطيع أن يصرفها في طرق تافهة لا تعود بالنفع على الرعية بأي وجه من الوجوه .. لقد تحدث الجهبذ الهمام في هذا السفر عن حماقة الملك و ضيق أفقه و بلادة تفكيره و عدم وقوفه على معاناة أهل العلم و الحكمة و اهتماماتهم ، و أوضح أن المبلغ الذي كان يحتاجه لنسخ أسفاره كلها و نشرها في أرجاء المملكة لم يكن ليناهز سوى نصف ذلك المبلغ الذي سينفقه الملك على حفل تأبينه و قبره و تمثاله عندما يكتشف عظمته و يهتدي إلى كنه قلمه بعد موته .. كما أوضح للملوك أمثاله أنّ الأحرى بهم أنْ يصرفوا على المبدعين من رعاياهم قبل موتهم حتى يستمتعوا بشهرتهم و يتباهوا بأفكارهم بين الناس خلال سنوات حياتهم . الأحرى بهم أن يفعلوا ذلك ليستمد المبدعون دعمهم المعنوي مِن مدى تأثير ريشتهم في الناس و ليندفعوا نحو إبداعات أخرى تركع أمامها سابقاتها .. أليست هذه هي صرخة رجل أبكم يا جناب الحكيم ؟

 فأطرق الحكيم قليلاً ثم قال :

- أين كنت أيها الرجل ؟ إنّ هذا هو السفر الذي ينبغي له أن ينسخ و ينشر مع كل سفر من أسفاره .. إنّ وردة واحدة تهديها لصديقك في حياته خير من باقة كاملة تضعها على قبره .