أحاسيس حية في جسد متهالك
محمد عبد القادر التوني
ـ مصر ـ قنا
أدهشتنى شيخوختها اللافتة للنظر ، وثوبها البالى الذي تختبىء فيه لتبدو واضحة جلية إلى كل من تقع عينه عليها ، وهى تجلس في هذا المكان للاسترزاق ، فقبضت بيدى على فرامل الدراجة ووقفت بالقرب منها متحاملاً على قدمى ولم أنزل من دراجتي ، لأن طفلي كان يركب أمامي وكنت أخشى عليه من هذا الزحام ، رغم أنني نسيته وهو بين زراعي خشية عليه من السقوط من فوق الدراجة ، وهو لم يزعجن لأنه عاش مع هذا الزحام الذي يتجلى فيه الصراع على لقمة العيش والجديد عليه ، حيث كانت هى المرة الأولى التي أصطحبه فيها إلى السوق ، ونسيت نفسي وأنا أحدق في هذه المرأة ، فقد كانت هي الوحيدة التي تجلس في السوق وليس معها شيء يباع !
عدا إناء فارغ أمسكت به ووضعته داخل قفص صغير مصنوع من جريد النخيل وهو فارغ أيضاً ! وأمامها كومة من الرماد ويبدوا أنها مخلفات النار التي كانت تشعلها لتقاوم البرد في هذا الجو المفتوح والشديد البرودة خاصة وأن بعد مسافة السوق عن المناطق المجاورة له تجعل النساء يغدين إليه كغدو الطير تماماً ، ولكن يبدوا أنها الوحيدة التي أشعلت النار دوناً عن المجاورات لها ، سرقتني من نفسي ، فأخذت وقتاً طويلاً أحدق فيها دون أن أدرى بما يدور من حولي حتى أنني لم أنتبه إلى أن كتفي ملاصق للخاروف المذبوح والمعلق في الكلاب أمام الجزار ، فجأة ضغطت المرأة بيديها على ركبتيها ووقفت ، ورأيت علامات القلق واضحة عليها ، فظننت أنها تحتاج إلى من يساعدها في وضع أدواتها الفارغة فوق رأسها ، وترددت كثيراً ولم آخذ خطوة إيجابية في التحرك نحوها ، ولكن أخذتها هي !
فتقدمت نحوى متهللة فرحة كطفلة تسرع إلى حضن أبيها لتمسك برأسي تميلها عليها فأرخيت لها أذني ظناً منى أنها تسر إلي ببعض الكلمات ، لكنها وضعت قبلة على خدي سرى مفعولها في جسدي كله ، فشعرت بالدفء وكأنني أرتمى في حضن أمي ، وهى تدعو لي ولأولادي ، لم تعطيني فرصة للاستغراب والدهشة ، فواصلت حديثها وهى تقبض على يدي قائلة لي : (عمري خمسه وتمنين سنه وبقالي اتنين وستين سنه في المكان ده أبيع واشترى، أحسن من بنات اليومين دول ) شعرت بالتدنى أمامها رغم أنني فارع الطول وهى مفرطة في القصر ! وقلت في نفسي أنت الأحسن والأفضل ليس من البنات فحسب بل من الأولاد أيضاً ! وانتبهت لها قائلاً : ( ربنا يديك الصحة )، فردت على قائلة : ( مديني والحمد لله ) وكأنها لمحت يدي تقترب من جيبى ، فاقتربت منى أكثر ثم قالت : ( الخميس اللي فات جاني واحد وقف عندي وحط يده في جيبه وراح يلافينى فلوس ، خبطت على صدرى وقلتله ياود عيب عليك أنا ببيع واشترى ومقبلش حسنه من حد ) ! بدأ جبينى يندى عندما تسرب إلى شعور بالخوف منها ؛ وتركتنى وأنا في حالة من الاستغراب والدهشة يكسوهما شعور الخوف وهى تدعو لي ! لتضع حملها علي رأسها بنفسها ، وتغادر المكان كفراشة ، أيقنت ساعتها أن فلسطين ماتزال شابة ، ولن تشيخ!.