قصص قصيرة
أبو دواة
مصائر
جلس الأستاذ (فَحْص) إلى كومة الورق التي عهدوا بها إليه؛ وفي كل ورقة منها مصيرٌ مصلوب!
ارتشف دفعة من الشاي الحار، وزمّ عينيه جزعًا... سَحَبَ (مصلوبًا) من الكومة، وراح يتفحّصه... "إم... رائع! صِلبةٌ رائعة! تستحق أن (تُنْشَر)!" ... ضحكتْ الورقة كثيرًا... كثيرًا جدًّا –أيها القراء-... وتحسّستْ بطنها وأطرافها التي تقطر بالدم... لقد نجتْ... نجتْ!
... مصلوبٌ آخر... وتراكمت الأجساد التي قامت وتنتظر (نشرها) القريب...
كان الليل ينتصف... والكومة انتهت نصفُها...
-كفى!
وطوّح بالبقيّة في السلّة... وعندما قام الأستاذ (فَحْص) في الصباح كانت السلة تطفح بالدم!
أبو دواة - ليلة الاثنين 25/02/08
مُحِبّ
جلس (محب) يتسمّع الأغنية في الحاكي ممتثلًا مهذبًا مكتّفًا ذراعيه... (محب) يصبر... يصبر كثيرًا –أيها القراء-... ويرى أن لصبره فائدة... فهو يشذّب مشاعره، ويشحذ سيوفه، ويقص أظافره... مشاعره التي تعفّنتْ وقضتْ من فرط الري... وسيوفه التي انبرت ولم يسلم منها سوى مقابضها وأغمادها... وأظافره التي يلتهمها ويلتهمها ويلتهمها ولا يملّ... وتقطر بالدم... ولا يمل... "ضروري هناك فائدة! ... لعلّ هذا أن يزيح عنّا... ربما يتأخّر نموها قليلًا"... كانت أمه تقول له كثيرًا "يا (محب) لا تَجُرْ على أظفارك –يا حبيبي-..." ... لكنه الطبع –أيها القراء-... فمحب يقرأ كثيرًا كثيرًا حتى طاشت كتبه بعضها ببعض فنسيها... وينتظر اليوم الذي توجّه إليه فيه إصبع استفهام –لا اتهام... أو ربما اتهام؛ ففي ساعات الوحدة يبحث الإنسان عن أليف... ولو كان أليفًا من الجن!-... هو يؤمن جدًّا بذلك اليوم... سيجلس (محب) –إن شاء الله- إلى ميكروفون ويثرثر ويسعل... وسيدوّن الناس ثرثرته وسعاله ويجمّعون بصقاته من على السجاد... سيبصق كثيرًا –أيها القراء- وقد جمّع لعاب السنين العجاف... كان يأسف على اللحظة التي تضيع في البصاق!
سيكون لـ(محب) زوجة –أيها القراء-... زوجة جميلة وأنيقة ومثقفة... وقبل كل شيء ديّنة خَلُوق... وسيكون عندها رصيد من الأولاد والبسمات والنكات... سيضحكان كثيرًا ويحصيان النجوم ويمسّدان للمرعى شعره... ويركضان... سيركضان كثيرًا –أيها القراء- وقد ادّخر (محب) كل ركضه في أرسانه التي كبّلوه بها وأصحابَه إلى رجْل المقعد الدراسي ذي المسامير والأشواك... أرسانه التي كبرتْ معه وزادت أحجامها و(تجلّدتْ)... وصارت لها امتحانات... امتحانات أرسان شفهية ونظرية... سيطوّح بنظارتيه ويرتدي عيونًا محسّنة بالليزر... ويزرع أسنانًا مكان التي تخوّختْ وانخلعتْ... سيشتري علبة دهان لشعره وزجاجة كولونيا وكل هذه الأشياء التي كان عليه أن ينساها في أيامه الخالية... أيامه التي اعتاد فيها توسّد صفحات الجرائد على أرصفة المحطات في انتظار قطار... وأمضى يومه على رغيف بلديّ واحد... سينتقم من كل تلك القباحات... سيرسم أشكالًا ويمزّقها بالرصاص بل النيران... سيصرخ كثيرًا... كثيرًا –أيها القراء-... ويُصْدِر قُطوعًا صغيرة منه تضحك وتصرخ وتشحذ السيوف والمشاعر وتقلّم الأظفار... وتبكي ويبكي لها ومنها وبها... سيصْدرونه في طبعة جديدة أشدَّ ألمًا وأبين كلْمًا!
أبو دواة - ليلة الثلاثاء 26/02/08
مُعِين
جلس (مُعِين) إلى أشيائه الجامدة فوق مكتبه؛ زجاجة الماء المستنفذة، علبة ألوان الخشب المقصوفة، والكشكول المترع الغاطّ... وَحْدَه الراديو الذي كان يتكلّم، وكان كلامه موسيقى!
(معين) -الذي يعيش وحده بعد أن (رحلوا)- يحمل مجلّة الأدب في وَجْد، تتوه عيونه بين السطور، وتتضرج أذناه، وتطفر دموعه... كم تمّنى أن يجده هنا مرّة ، أن يفر من أشيائه الصمّاء إليها؛ أن يجده في المجلة مكتوبًا!
(معين) وحيدًا تاق بوحدته إلى الكلام؛ فراح يطمره بين أضراسه وعلكته، ويجمع نخالته –نخالة الكلام- ليحشو بها قلمه... ويكتب (نفاية خاطر) هكذا دومًا كان يسمّي مكتوباته؛ وكان يرى خاطره أسمى وأزكى من خطْر قلمه!
مسكين (معين) أمله أكبر من عمله... عنده قلب كبير، وهو به مصاب، دار على أطباء القلوب (ليقيّفوه)؛ فما أفلحوا... مسكين!
منه إليه... بَدِّل!
معين!