الوجه الآخر
علاء بو شريط
الجلوس أمام الدكان ومراقبة المارة هي مهنته الحالية ، اتعبه العمل وحفرت السنون اخاديدها في وجهه وجسده ، غارت عينيه وفقد معظم بريقها ومع أن الشيب لم يقدر على النيل منه إلا أن الوهن بدأ يملك عليه نفسه ، الوقت يزجه في الحديث مع الاصدقاء ، وهم قلة .. استغراقه في العمل حرمه من الاصدقاء .. وتلك سودة العمل ومعاناة الشيخوخة ، أو التفكير اللامجدي ، التفكير في نفسه وفي الآخرين ، ترف لم يمارسه من قبل ، أما اليوم فيتسلل إليه بالنهار ويطرقه بالليل على غير إرادة منه ، لم تكن له مسرات وأين له بالمسرات ، ولم ير أنه بحاجة إليها من قبل .. شغلته الاسرة عن نفسه ، أو قل انشغل هو بها عن نفسه ، وها هو الجلوس الاجباري يعيده إلى نفسه ، بعدما انشغلوا بأنفسهم عن نفسه ، النظر في المرأة أصبح من اهتماماته اليومية ، هذا الصباح اكتشف ان وجهه يحفل بالندوب ، وبالبقع السوداء ومنذ أيام شعر أنه لا يكاد يميز البياض من السواد من مقلة عينيه ، الآن يجزم أنه لم يأخذ من الدنيا الكثير ، وربما حتي القليل ، لم يلهو ولم يقصف قليل هي المرات التي ضحك فيها من قلبه وقليل هي المرات التي رغب فيها أن يسري عن نفسه ليزيح ما علق بها من متاعب .
مع كل هذا اقنع نفسه بأنه أخذ من الدنيا شيئاً ، غافلها عن نفسها أيام شبابه تزوج عدة مرات ، زواج أشبه بالمغامرة على غير قصد منه .. انتهت كلها بالفشل نسيها جميعاً ولم يعد يذكرها كأنها لقاءات عابرة من طيش الشباب ، ولهوه وقصفه ، غير زواج واحد مازال ينغص عليه حياته كلما فكر فيه ، تساءل مراراً وتكراراً .. لم عجز عن الفهم وفسر الأمور على غير حقيقتها ، وابدى غباء وتسرعا لا مثيل له .
ظن في بداية حياته معها أنها تمثل غيرها ، غير أن الأيام كشفت أنها من طينة أخرى امرأة مفعمة بالحب ، تتدفق حيوية وحبوراً ، ومع قصرها وامتلاءها فهي مترعة بالنشاط بالنشاط ، منحته كثيراً من الحب ومن السعادة يومها نسي كثيراً من مشاكلها وهمومه وتقبل الحياة رغم قسوتها ورأى أن الحياة جديرة بأن تحيا انقضت الشهور كأنها أيام بل ساعات .حتى كان ذلك اليوم الذي وضع حداً لحياتهما معاً ، اصيب بفاجعة ، فحزن ما شاء له الحزن ، ولا يستطيع أن يحكم أنها لم تشاركه حزنه ولا مصابه ، فتلك مشاعر لا يملك للمرء أن يحكم عليها ، إلا أنها أظهرت ما رابه منها ، ذلك أنها راودته عن نفسه في اليوم الثالث اعتذر ، المفاجأة أذهلته ، كظم غيضه ، وأظهر ليونة ما كان له أن يبديها لأحد ، في اليوم التالي طلقها ..
يذكر أنها كانت شديدة عليه مشاعر متناقضة اصطرع معها مشاعر من الخوف والرعب والاشمئزاز ، وساعات من الندم والحسرة والتساؤل وأعمال الفكر ، هل هذا السلوك دليل على التفسخ والانحطاط .. أم دليل على الحب والمشاركة الوجدانية يومها لم يستطيع أن يجد جواباً ، ولم يرسو على قناعة ، طوفت به مشاعر مضطربة متناقضة ، وغزته حمى من الأفكار السوداء لم يقدر منها فكاكا . الآن وبعهد كل هذه السنين فهم أن ما ظن فجوراً وتفسخا ما هو إلا مشاركة وتضامناً وأن من الممكن للمرء أن يغالب حزنه ليسعد الآخرين ، وأن المشاركة في الحب هي عينها المشاركة في الحزن ، انتبه على غير وعي منه ، اخذته التفاتة ، رأى امرأة قصيرة ممتلئة في نحو الخمسين عليها مسحة من جمال سابق تعبر الممر المسقوف إلى الجهة المقابلة ، قدرانها هي حاول أن يقف ليلمي منها ، لكن الحسرة اقعدته ، ومن خلال عينين منطفئتين رأها تتسلل بعيداً .