أرجوحة الدنيا

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

نزل الأمرعليه بردا وسلاما كأنه هبة ربانية أو منحة سماوية ، لقد كانت هدية ثمينة  ، ساقها الله إليه بعد أن رفع يديه ضارعا إلى الله أن يفرج عنهم كربة الفقر والغربة  بعد صلاة الفجر في المسجد ، وما إن أنهى دعاءه وهم بالنهوض ليتوجه إلى سكنه ويجهز نفسه استعدادا لخروجه إلى العمل مع أصدقائه وزملائه بعد أن يمر عليهم باص الشركة ، حتى دنا منه جاره المواطن أبو جاسم  فسلم عليه وبعد أن سأله عن أخباره وأحواله وأوضاع العمل معهم ، وأحس بصعوبة الحال في إجابته وخلجات صوته ، وقرأ الضيق والحاجة في عينيه وحركات يديه ، أخرج من جيبيه ورقة نقدية  من قيمة  عشر ريالات ودسها في جيب الشاب هاني ، وهو يربت على كتفه قائلا : لا تنساني من بركات دعائك ، وما إن خلا هاني بنفسه حتى انهمرت دمعة ساخنة من عينه وهو يردد في نفسه : كم أنت كريم يارب ! .

لقد وصل هاني مع أصدقائه وزملائه إلى هذا البلد الخليجي من فترة قريبة لا تتجاوز الشهر ، وقد هيأت لهم الشركة سكنا في هذا الحي بجوار المواطنين من أبناء هذا البلد في بيت قديم لصاحب الشركة  بعد أن هجره وغادره من فترة طويلة إلى قصره الجديد .

أسرع هاني إلى المخبزليشتري بالريالات العشر، عشر ربطات من الخبز ، فلقد بات ليلته وهو في حيرة من أمره ، كيف يدبرله ولزملائه  قوت يومهم .

 لقد وصلوا من فترة لا تتجاوز الشهر وأمنت لهم الشركة  بالإضافة إلى السكن ، المواصلات إلى المشروع ، وأعطتهم سلفة تحت الحساب ليشتروا بعض احتياجاتهم الأساسية من فراش وثلاجة وغاز ... وغيرها ، وها قد نفذت تلك السلفة وهم  ينتظرون آخر الشهر لاستلام مرتبهم الشهري ، فهم لا يفكرون بالتردد على الشركة بين الحين والآخر وطلب السلف قبل أن ينتهي الشهر .

وحقيقة الأمر أن الشركة لم تقصر معهم ، ولو علمت بحالهم لأرسلت إليهم سلفة جديدة مع مندوبها ، مع أنها قد دفعت لهم  قيمة تذكرة السفر ورسوم الإقامة خلال الأسبوع الأول من وصولهم ، إلا أنهم لا يريدون أن يظهروا بهذا المظهر الضعيف والمحتاج أمام الشركة أيضا .   

 وهاني هذا شاب في مقتبل العمر، يتقد عزيمة ويتفجر حيوية ويحدوه أمل كبير أن يتجاوز ذلك الواقع البائس بعد أن أنهى خدمته الإلزامية في وطنه ، ووجد نفسه شبه عاطل عن العمل بعد ذلك ، بسبب الظروف المعيشية الصعبة ، وهو عدا كونه لا يملك شهادة جامعية ، فهو لا يجيد أو يتقن حرفة معينة يمكن أن يعتمد عليها في بلده ، وإن كان يملك الكثير من الحماس وقوة  العزيمة ، ويحدوه أمل كبير لتحقيق طموحاته ، ولذا لم يتردد في السفر مع مجموعة من أصدقائه ، أختارهم بنفسه بعد أن اتصل به أحد أقربائه من هذا البلد الخليجي وعرض عليه

 فرصة العمل هذه .  

مرت الأيام وانقشعت الأزمة وتجاوز هاني وأصحابه تلك الأيام القاسية ، وتعودوا على ظروف البلد بعد أن اتقنوا طبيعة العمل الموكل إليهم ، وتطور الأمر مع هاني بعد أن أثبت جدارته ومهارته أمام مدير الشركة ، بسبب جده ونشاطه وضبطه لعماله في مجموعته ، علما بأن أكثرهم يفوقه مهارة في هذا المجال من أعمال تمديدات الكهرباء للشقق والفلل السكنية.

بعد ستة أشهر استطاع هاني بألمعيته وعقله التجاري المتفتح أن يفاوض الشركة ويستلم منها أعمال التمديدات الكهربائية كمقاولات استصناع  أو أجور عمل كما يسموها مع مجموعته بدلا من عملهم كموظفين بمرتب شهري ، وبعد فترة ليست بالطويلة  تطور الأمر مع هاني بعد أن أثبت جدارته وكفاءة مجموعته في الأعمال التي استلموها من الشركة ، فنفذوها قبل نهاية فترتها المحددة بحرفية عالية وكفاءة  شهد له بها المهندسون الاستشاريون المشرفون على المشروع ، حتى أصبح هاني ومجموعته يشار إليهم بالبنان داخل الشركة بعد أن تفوقوا على عمال الشركة القدامى ، فانتقل بعدها إلى استلام أعمال جديدة من الشركة كمقاولات كاملة أي بما في ذلك تجهيز المواد .

وتتالت الأيام تترى وهي تبتسم لهاني ومجموعته ، ففكر هاني مع شركائه بالإنتقال إلى مرحلة أبعد ، فما دامت العزيمة والكفاءة موجودة فما يمنع من الطموح ، فعرض على الشركة أن يقوم بترتيب أعمال جد يدة من شركات المقاولات الكبيرة ويتولى تنفيذ تلك الأعمال ويقدم للشركة نسبة من الأرباح مقابل اسمها واشرافها ومتابعتها وتمثيلها لهم أمام الجهات الرسمية .

تطورت الأحوال مع هاني ومجموعته وظهرت آثار النعمة عليهم في الطعام والشراب والملبس والأثاث في سكنهم القديم ، بعد أن ألفوه وألفوا ذلك الحي وأبنائه الطيبين من المواطنين والوافدين  ، ثم  اشتروا حافلة صغيرة لتقلهم من السكن إلى المشاريع وليقضوا فيها مشاويرهم بعد العمل .

وذات مساء وبعد صلاة العشاء تقدم أبو جاسم نحو المعلم هاني يسلم عليه ثم سحبه وذهب به مبتعدا عن باب المسجد وازدحام الناس ، وبعد أن سأله عن أحواله وأوضاعه وظروف العمل واطمأن إلى ذلك وإن كان أثر النعمة بدا ظاهرا في لباسه النظيف والمرتب ، بعد أن ترك العمل بيديه وتفرغ لمتابعة عمله أو البحث عن مشاريع جديدة ، إضافة إلى سيارته الخاصة التي اشتراها حديثا لتسهل عليه ذلك وتعينه على أداء مهامه .

- لي عندك طلب يا معلم هاني

- تفضل يا عمي أبو جاسم .

-  أريد منك خمسة آلاف ريال قرضة حسنة لمدة ستة أشهر إن كانت ظروفك تسمح بذلك .

- أبشر يا أبا جاسم ... غالي والطلب رخيص .

- ولي رجاء أيضا مع ذلك .

- أنت لا ترجو .... أنت تأمر يا عم أبو جاسم

- استغفر الله يا ولدي .... ثم استأنف حديثه قائلا : وأن لا يعلم أحد بهذا الأمر وبالأخص أولادي .

-  لك ذلك وكما تشاء يا عم أبو جاسم .

آثر أبو جاسم أن يطلب هذا الدين من المعلم هاني رفيق المسجد بعد أن تعرف عليه وأحبه ، وكبر الأمر عليه أن يطلب هذا الأمر من أولاده بعد أن وقع بضائقة ألمت به .

شعر أبناؤه بأن أمرا ما قد حصل ، وأن والدهم لا شك أنه قد اقترض مبلغا من المال من هنا أو هناك لفك هذه الأزمة بعد أن رفض رفضا قاطعا بتولي أبنائه لحل تلك المشكلة ، فرجح في ظنهم أنه ربما اقترض هذا المبلغ من صديقه الجديد هاني ، فذهبوا إليه يستفسرون منه  وألحوا عليه في السؤال وأبدوا استعدادهم لدفع الدين عنه ودون أن يخبروا والدهم  بذلك ، وزادوا عليه بأن المشكلة لم تنته بعد  وهو غير قادر على السداد له ، ولكن هاني كان قد قطع وعدا بأن لا يخبر أحدا بذلك الدين وبخاصة أولاده ، فأظهر لهم جهله بما يسألون عنه وعدم علمه عن هذا الأمر شيئا من قريب أو بعيد ، وفاء للوعد الذي التزم به لصديقه أبي جاسم  وقطعه على نفسه .

بعد ستة أشهرذهب أبو جاسم إلى المقاول هاني ليزوره في منزله الجديد ، وبعد تبادل عبارات الترحيب والتأهيل من الطرفين وبينما كانا يرشفان الشاي معا ، اتجه أبو جاسم  مخاطبا صديقه هاني ومسحة الحزن والأسى تغطي وجهه وتنسل من بين ناظريه وتطل من بين شفتيه وتتعثر بين حروف كلماته المختلجة رغما عنه ، وهو يشيح بوجهه عنه جانبا يتحاشى أن تلتقي عيناه بعيني هاني قائلا : إني أقدر ما قمت به من معروف مقابل هذا القرض ، وأثمن تكتمك على هذا الأمر أمام أولادي وفاء لكلمتك التي وعدتني بها ، ولكني وللأسف لم أتمكن من تجهيز المبلغ لأحضره لك معي بحسب الموعد الذي بيننا ، أجاب هاني وما المشكلة في الأمر يا عمي أبو جاسم ... وليكن ستة أشهر أخرى أو سنة .

هدأت نفس أبو جاسم قليلا واطمأنت أحاسيسه  ومشاعره ، وأزاح عن صدره كابوسا ثقيلا كان يضغط عليه ، فتحررت نفسه من الضيق والحرج قليلا ، فشكر هاني على صنيعه وأثنى على طيبته وحسن أخلاقه ، وبعد لحظة من الصمت رفع أبو جاسم بصره نحو هاني قائلا :  هل تتصور أو يتحمل عقلك أن تمر عليك حالة لا تملك فيها ثمن ربطة من الخبز تحضرها إلى البيت ، وكيف سيكون شعورك لو حصل لك ذلك ؟

 أجاب هاني بعد أن سرح به الخيال بعيدا ، وتذكر تلك الريالات العشر التي أعطاه إياها أبو جاسم منذ أكثرمن  ثلاث سنوات فاشترى بها عشر ربطات من الخبز فكانت عنده يومها أفضل وأثمن من عشرة آلاف ريال في جيبه اليوم  ، ابتسم هاني وهو يهز رأسه بهدوء وتفكر، وهو يقول : وكيف لا أتصور ذلك وقد مرت علي هذه الفترة وكان الفرج من الله على يديك يا عم جاسم .

أجاب أبو جاسم بدهشة : وكيف كنت أنا السبب يا هاني ؟

- ألا تذكر يا عم أبو جاسم يوم نقدتني عشر ريالات بعد صلاة الفجر في المسجد مند أكثر من ثلاث سنوات ؟ ثم أضاف : ولم يكن في جيبي غيرها ، فذهبت إلى المخبز واشتريت بها عشر ربطات من الخبز لي ولزملائي .

- والله لا أذكر الحادثة تماما ، ولكني غالبا ما أفعل ذلك باستمرار بعد كل صلاة ، ولعلني قد أعطيتك ذلك يوما أو أعطيت بعض زملائك يوم  سكنتم بجوارنا وكانت أوضاعكم صعبة في بدايتها .

- بل إني أؤكد لم يا عم أبو جاسم بأن هذا قد حصل معي وكنت السبب في فك أزمتي يومها .

- لا أكتمك سرا يا ولدي بأني اليوم بل الساعة لا أملك في جيبي ثمن الخبز للبيت .

امتدت يد هاني إلى جيبه قبل أن ينبس ببنت شفة ، فسحب ألف ريال من جيبه ووضعها في جيب أبي جاسم وهو يقول : إذهب يا عم أبو جاسم واشتري بها الخبز واللحم ... والسكر والرز والزيت ، وإن احتجت فتذكر أن لك ولدا اسمه هاني لن يقصر معك إن شاء الله ، فكل ذلك من نعم الله وفضله ، وأما الخمسة آلاف ريال فانس أمرها تماما واعتبرها قد وصلتني يا عم أبو جاسم ، واعلم أن هذا الأمر لن يعلم عنه الأولاد أو غيرهم شيئا .

طفرت دموع ساخنة من مؤقي أبي جاسم وتقدم نحو هاني يعانقه فضمه هاني بقوة وقد طفرت الدموع من عينيه هو الأخر واختلطت أصوات دعائهما ودموعهما معا .