الجندية المجهولة
الجندية المجهولة
مجدي السماك
[email protected]
مالت الشمس لتهوي لولا أن امسك بها فم
المدى وأخذ يلتهمها ببطء لقمة وراء لقمة حتى ابتلعها كما الفريسة الكبيرة في فم
تمساح ، وبسط الكون عباءته . السيجارة في فمي يقصر عمرها مع كل شهقة عميقة مضطربة
وزفرة طويلة متوترة .. و ها هي ذي ساعة يدي تتأفف لكثرة نظراتي لها وقد فات على
الموعد المحدد للقاء نصف ساعة بلا أي زيادة أو نقصان . لم يعد بإمكاني انتظارها
أكثر من ذلك .. فبات واضحا أنها لن تأتي . هممت بالمغادرة ، لكنها جاءت فخفق قلبي
خفقات طمأنينة لا تخلو من قلق .
جلست ووضعت رجلا فوق رجل وأكدت حضورها
بهزة من رأسها ، هي هزة تحية صامتة ، فرددت عليها تحيتها بهزتين من رأسي ، نظرت
إليّ بنصف بسمة فنظرت إليها ببسمة كاملة . فجأة أشارت بسبابة اليمنى و سألت ما
هذا ؟
عجبت لسؤالها ! فنظرت حولي إلى الوجوه
المستكينة لرواد المقصف بنظرات ملؤها الحيرة ، ثم حدقت بوجهها الأصفر والأملس
كالصابون المبلول وقلت لها بصوت خافت متقطع : إنه تمثال الجندي المجهول ! وأسندت
ظهري واستنشقت بعمق رائحة عطرها الساطعة و تمنيت لو بإمكاني تخزينها في رئتيّ . وما
هي إلا لحيظات قليلة حتى عادت تسأل ثانية ..
- لماذا هو مجهول هذا الجندي ؟
- لأنه رمز للتضحية والفداء والبطولة
لناس لا أحد يعرف شخصيتهم .
- لماذا لا يوجد تمثال للجندي المعلوم ؟ أقصد للمعروفين !
- المعروفون خلدهم التاريخ بأسمائهم .. وبعض الشعوب تصنع لهم تماثيل .
- دون أن يكونوا رؤساء ؟!
- نعم !
بصراحة شعرت أني في ورطة ، فهذا تمثال
معلوم لشخص مجهول ، أو لأشخاص مجهولين . وهو أهم معلم من معالم المدينة . أمّا
المعروفون فلا تماثيل لهم عندنا ، حتى عندما يموتون تعلق صورهم لأيام معدودة فقط ..
ويذهب كل حي إلى حال سبيله .
قطّبت ما بين حاجبيها ، وأمالت ظهرها
قليلا إلى الأمام ، وقالت بصوت حاد و ناعم كمواء القطط الصغيرة : هذا شأنكم أنتم
أيها الرجال ، ما يعنيني هو أمر النساء !
أغمضت عينيّ نصف غمضة ، وشبكت أصابعي
بعضهما ببعض وطرقعتها . أخذت رشفة شاي فاتر ، وحدقت بتمثال الجندي المجهول كأني
أراه للمرة الأولى في حياتي ، فوجدته كما هو دائم الإشارة بسبابته إلى القدس ، ويده
الأخرى تحمل السلاح . شعرت أني لم أفهم شيئا من كلامها الذي يشبه الطلاسم ، وقد
اندفع من فمها وابل من الأسئلة لم تلتقط أذناي إلا بعضها .. لم اعبأ بها ووجدتني
اسألها بلهفة :
- ما شأن النساء وتمثال الجندي المجهول
؟
- يجب أن يكون هنا تمثال للنساء
المجهولات !
- لماذا ؟ وكيف ذلك ؟ هذا جنون !
- الكثيرات من النساء قدمن حياتهن و ضحين بالغالي والنفيس من اجل الوطن ، وبما لا
يقل نوعية عن تضحيات الرجال إن لم يكن أكثر أهمية !
- ولكن هذا التمثال يرمز لتضحيات الرجال والنساء أيضا !
- لماذا لا يكون هذا التمثال لفتاة بدل الرجل ؟ .. وليكن له نفس الرمزية للرجال
والنساء .. ونسميه تمثال " الجندية المجهولة" .
تجمد الكلام في فمي وبت لا اعرف كيف
أرد على كلامها وأفنده ، وبعصبية أخذت افرك عقب السيجارة في منفضة السجائر ، لكن
النجدة جاءتني بسؤال ، فوجدتني أمتشق لساني واسألها :
- على فرض موافقتي على كلامك ، فماذا
سيرتدي تمثال" الجندية المجهولة"؟
- أية ملابس ! لا فرق عندي ! فستان
سيواريه أم بنطلون مع بلوزه .. أي شيء .. حتى لو بنطلون شورت مع بلوزة كت .
- لكننا في مجتمع محافظ وقد لا يقبل بأية ملابس ، فمن الأفضل أن يلبس
تمثال "الجندية المجهولة"جلباب ونغطي شعر الرأس
بإحكام .
- وليكن ذلك .. ولا مانع عندي أن يكون التمثال بزي عسكري .
انتابني شعور وكأنني موافق على رأيها
بهذه الأسئلة وهذا المجرى للحوار ، فعدت ثانية أقول لها بنبرة حادة رنانة : إن جميع
شعوب الأرض تبني تمثال الجندي المجهول على شكل رجل ، فلا يعقل أن نشيده نحن العرب
على شكل فتاة .. هل نحن أكثر تطورا من بقية شعوب الأرض ؟
انتابها موجة عارمة من العصبية ، فأخذت
تمور وتفور كالحليب عند الغليان ، مما جعل جميع رواد المقصف ينظرون إلينا وقالت بعد
أن استلت لسانها بغضب جامح عصف به فمها : ولكنكم انتم الرجال لم تحققوا انتصارات
في الحروب ! وعلى الرغم من ذلك تصنعون لأنفسكم تمثالا يرمز لبطولاتكم الوهمية ، أو
هي بطولات فردية بلا أي انتصارات حقيقية .
لكنني لم أسكت على ما قالته ، وأخذت
أرشقها بالكلام و الأسئلة بصوت مدو كالرصاص في الأفراح ..
- إذن عليكن الذهاب إلى الحرب مع
الرجال !
- لا . بل نذهب إلى الحرب بدل الرجال
!
بصراحة تملكتني رغبة بإزاحة الكؤوس عن
الطاولة ، والغطاء الأبيض الذي يتدلى عن متنها كي افكك الطاولة إلى عدة قطع ، وأمسك
برجل الطاولة الغليظ المصنوع من خشب الزان وأهوي به على رأسها حتى تكف عن الثرثرة
الفارغة ، لكني أمسكت و آثرت أن أظل ديمقراطي . ثم عادت تقول بخبث ظاهر : من الممكن
تشييد تمثالين مجهولين ، أحدهما للرجل والآخر للمرأة .. ونضعهما بجانب بعضهما أو
متقابلين .
لم أحفل بكلامها وانتهى اللقاء دون
الوصول إلى نتيجة في النقاش . وما هي سوى أيام قليلة حتى استيقظنا في الصباح وقد
تحول تمثال الجندي المجهول إلى كومة من الحجارة والركام بعد أن تم تحطيمه بأيدي شخص
معلوم .. وربما هو مجهول .