تبن لكِ ولهم
عادل العابر - الأحواز
أحضروه إلى المحكمة يسانده رجلان من الإستخبارات من منكبيه،
منتعلاً مركوباً متهتكاً كجسمه الذي تهتك من لهيب الأسواط،
في عينيه ورم من شدة اللكمات التي تلقاها منهم،
تبدّل بياض وجهه إلى سمرة دكناء، من شدة العطش،
والجوع،
والفراق،
والسهر،
والتعذيب!
ذابت وجناته ونحل جسمه،
يضربونه وهو مقيّد اليدين ومعصوب العينين حتى يغشى عليه!
يحفرون في صدره وهم يشتمون أمه، وأخته، وأباه،
وكل الذين ينتسب إليهم،
وكل العرب!
فلا ذرة رحمة في قلوبهم السوداء!
الواحد منهم يزن مائة وخمسين كيلو غراماً وكأنهم يتغذون من لحم الخنازير، ولا شك في ذلك.
كان في عجب من أنه لا يستطيع المشي وحتى النطق!
يتذكر جيّداً أنه كان يمشى ويتكلم بطلاقة الليلة البارحة!
فماذا حصل له خلال ساعات حتى فقد قدرته تماماً؟
وفي جو مشحون بالعنصرية والكدر،
حكم السكوت في فضاء المحكمة،
وبعد لحظات دخل القاضي فقام له الحاضرون إحتراماً إلا هو، إذ لا يستطيع القيام،
وبدأت المحكمة،
لم يكن يفرز الكلام الذي يتفوه به القاضي والمدّعي العام،
وقد عرف السبب الذي ثقل سمعه وسلب قدرته... إنه الإفطار الذي تناوله عند الصباح!
كان قد مزج رجال الإستخبارات مخدّراً في طعامه ليعجز من الدفاع عن نفسه أمام القاضي!
وربّما القاضي هو الذي أوصاهم بتلك الفعلة الخبيثة، ليوجه ضده إتهامات سيكون حكمها الإعدام ثبتت أم لم تثبت!
حاول مراراً أن يتكلم ولكنّ لسانه لا يدور في فضاء فمه!
جلس على كرسي المتهمين يطالع وجوه الحاضرين، القاضي والمدعي العام ورجال الإستخبارات وسكرتيرة جميلة كانت تجلس جنب القاضي.
قال في نفسه:
ما دمت عاجزاً من الدفاع عن نفسي، فلأمتع نظري بالسكرتيرة!
شاب في الخامسة والعشرين من عمره ولم ير إمرأة منذ عام ونيّف،
كان يظنّ أن التعذيب أفقده أحاسيسه الجنسية!
ولكنه يرى حيويتها الآن وهو ينظر نحو السكرتيرة!
حدّق في عينيها،
في حاجبيها،
في وجناتها،
في فمها،
وسرح في خيال أنساه المحكمة وكل ما يجري فيها!
وفي خياله...
قام من مكانه ومسك يدها وخرجا نحو شط كارون!
ثم دعاها إلى المطعم الذي يشرف على الشط فجلسا ينظران إلى طيور النورس السابحة على الماء من الشبابيك!
ثم خرجا ممسكاً يدها وتوجها نحو الشقة!
فدخلا شقـتهما واغلقا الأبواب و...
ثم تذكر خطيبته وطأطأ رأسه خجلاً!
فهمس بلسان ثقيل وكلمات معوجة مبعثرة الحروف:
ــ عذراً يا حبيبتي وقد واعدتك أن أكون وفياً معك،
ولا يميل نظري إلى سواك،
فكيف مال نظري إلى هذه الفارسية؟
وراح يؤنب نفسه مردفاً:
أيّ مناضل أنت وقد نسيت الأصول وضعفت أمام فتاة أعجميّة؟
كيف سيسامحك أصدقاءك الذين استشهدوا من أجل طرد هذه وزمرتها؟
ثم واصل ودموعه بدأت تسكب على خديه:
عفواً يا وطني وقد تخليت عنك لبضع لحظات!
وليس من شيم الرجال أن يتخلّوا عن أوطانهم وهي محتلة!
سامحني يا رب! ولا شك أنك تغفر للمجاهدين الذين ضحوا بأموالهم وحتى بأنفسهم!
ثم علت الأصوات واستطاع أن يسمع بعض الكلمات التي تفوه بها القاضي كـ (الأحواز) و(ولي الفقيه) و(محارب) ثم (الإعدام)!
وقبل أن تختم الجلسة أشّر إلى السكرتيرة لتأتي إليه!
ولكنّ رجال الإستخبارات أجلسوه،
فقال القاضي: بينه وبين الموت هذه الليلة لا أكثر، لنر ماذا يريد من السكرتيرة،
ولما حضرت السكرتيرة قال لها بلسان متـلعثم عاجز عن الكلام:
(تباً لكِ ولهم) وأشار إلى القاضي والمدّعي العام ورجال الإستخبارات!
ولكنها لم تسمعه جيداً وكان مازال مخدّراً،
أعطته قلماً وورقة ليكتب ما يريد، غير أنه لم يستطع،
وبعد ما سكتوا جميعاً كرّر الجملة لها فكتبت: (تبن لكي ولهم)!
أراد أن يصحّح الجملة ولكنهم لم يمهلوه فأخذوه.
وعند الفجر أحضروه إلى المشنقة،
كان فرحاً من أنه يستطيع الكلام وبصوت عال!
عجب القتلة من شدة فرحه!
قال وهو يضحك بصوت مرتفع:
تبن لكم!
هل تعرفون التبن يا جبناء؟
إنه علف الدابّة!
ثم تصوّرَ السكرتيرة والقاضي ورجال الإستخبارات غنماً تعلف تبناً!
فضحك من أحشاءه حتى أن أسكت حبل المشنقة قهقهاته العالية!
فأضطرب القتلة وخافوا رغم أنه كان يتمرجح تحت حبل المشنقة!
مقيد اليدين من الخلف!
وابتسامة جميلة لم تفارق شفتيه حتى بعد أن التحقت روحه بأرواح أصدقاءه الشهداء!