مذكرات السجينة الخضراء

مذكرات السجينة الخضراء

أحمد صرصور

[email protected]

اعجبه جمالها. قرر الاستحواذ عليها . اختطفها وساقها هذا الطاغية الى سراديب تحت الارض. اختفت عن الانظار, خلال دقائق معدودة. لم تعد ترى النور, انها ظلمات السجن ورائحته الممزوجة بالبرودة. برودة تكدست فيها كل الامراض المزمنة. لقد وُلدت لاسعاد الناس, وتفريج كربهم. ولم تتوقع في اسوأ احلامها, هذا المصير. حذاها الامل بالافراج السريع . لكن , هيهات , هيهات .

مرت الاعوام الثقيلة, تلو الاعوام . وهي ما زالت, وسائر اخوانها العشرة آلاف اسير, رهائن الظلام والرطوبة القاتلة. دعت الله في سرها وعلانيتها, ان تتكسر القيود, ويفك اسرهم الذي طال . انتابها اليأس من استجابة الدعاء, فقررت ان تكتب مذكراتها, تدون فيها كل ما مرَّ عليها من لحظات سعادة, حزن واكتئاب منذ الولادة, حتى هذه اللحظات. حالها, حال كل من قبع في السجن ظلما, ليفني من عمره نصفه, بلا عدل محكمة, وبامر اداري ظالم.

 تذوقت الوحدة القاتلة, وحدة جعلتها تعزي نفسها, بمناجاة ذكرياتها . تكررها في مخيلتها كشريط سينمائي . تحاول ان تكتشف فيه, في كل مرة تعرضه على جدار مخيلتها, حلاوة الحدث. فترتسم بسمة خفيفة على وجهها, تخفيها ظلمة السجن.

 فهذه المناجاة, تساعدها على كسر جدار الصمت, والزمن البطيء, الذي يمر عليها في الاسر .

 نذرت نذرا, اذا فُك اسرها, ان تبحث عني مهما كلفها الامر. لتقص علي ذكرياتها الاليمة في السجن. ولتفضح ذلك الظالم, واعماله النتنة.

دارت ألايام لتحمل بين طياتها, حياة الحرية لها, ولمن معها . تم الافراج, فعادت تؤدي رسالتها بامانة . تسابق الريح وتعانق الشمس, التي حرمت منها على مدى اعوام. انها تريد ان تعوِّض, كل من حُرم من خدماتها, واسعاده.

حتى وصلت اليَّ فقالت :

واخيرا ها أنا امامك

حياك الله وكثَّرمن امثالك في محضري .

جلست امامي مستطردة في حديثها تقول :

تمت ولادتي, ودونوا تاريخ ميلادي هنا, كما تراها. منحوني رقما تسلسليا, قالوا انه رقم هويتي, او حريتي . سمه كما تشاء. فانا ابلغ من العمرعشرين عاما, جميلة المنظر, اخلاقي رفيعة وعالية,مرحة.

 حللت ضيفة على آلاف البشر . زرت الغني والفقير , الكريم والبخيل, المحترم والنذل , اشتهاني الرجال والاولاد , رحبت بي النساء والبنات .

مرت ايام سعيدة, افرحتني. واخرى حزينة, ابكتني . أحبني كل من رأني, او سمع بي.استقبلوني برحابة صدر, واذرع مفتوحة. فانا ما زلت جميلة, رغم ما عانيته في غياهب السجن, من كبر في السن, وشحوب اللون, وتجعدات في الجلد.

 أدخلت السعادة, على قلوب الملايين من البشر . من اراد الزواج, ساعدته في تحقيق مأربه. ومن اراد الحصول على سيارة , كنت عونا له في تلبية مبتغاه.

 بنيت مساكن الاغنياء, وقصور الامراء, واكواخ الفقراء. اقتنيت الذهب للنساء. اسكرت الناس بالاحتساء . اطعمت ملايين الافواه الجائعة .

كنت افرح, لفرح الاطفال. بما اقدمه لهم من العاب.

 حققت احلام الكثير. وحزنت لعدم تلبيه رغبات البعض .

كنت اغضب واحزن بشدة, ممن استغل طيبة قلبي. وسخرني عنوة, في المساهمة بمكائده الخسيسة, من اجل النيل من الشرفاء. استهانوا بي, وحولوني بالاكراه الى سلعة رخيصة, لتحقيق مآربهم. وانا بريئة من هذا الذنب, كبراءة الذئب من دم يوسف .

كنت في اوج سعادتي, حتي ساقني قدري الى ظلمات السجن, على يد ذلك الظالم, البخيل. الذي اختطفني عنوة, بالنصب والاحتيال. ليحطم آمالي في تحقيق السعادة للآخرين. ويحول مساري في رسم البسمة على وجوه المحتاجين.

 خططت واخواني السجناء للهرب. لكن ما في اليد حيلة . تمنينا ان يعلم بمكاننا احد قطاع الطرق, ويحررنا ولو بالحرام .

 كان السجن محكم ألاغلاق. لا ارى النورفيه, الا عندما يأتي الحاكم ليقبلني, ويتمتع بي, انا وبعض الاخوات . ثم يعيدنا الى الزنزانة, بعد ان يشبع رغباته. حذرناه دائما من عذاب الآخرة, ان استمر بحجزنا, حبسنا, ومداعبتنا.

واخيرا جاء الفرج. وحصلنا على العفو العام, نتيجة الموت المفاجيء للحاكم. وسقوط حكمه الدكتاتوري . حمدنا الله, ان وريثه في الحكم, لم يكن بخيلا مثله .

عفا عنا هذا الكريم , النبيل. اطلق سراحنا جماعات وزرافات. جازيناه باغداق النعم عليه. مما لذ وطاب, من مأكل, مشرب, ملبس ومركوب. متعناه ودللناه, مقابل هذه الحرية .

طرت اليك لأبرَّ بقسمي, واوفي بنذري. وارجو ان يتسع قلبك لامري .

قلت لها: لا عليك يا من بمنظرك تفرح القلوب. وبجمالك تتمتع العيون . اني ارحب بك, وبكل عائلتك . قدمت اهلا, ووطأت سهلا .

في المستقبل القريب, سأزف ابني الى عروسه. وانت مدعوة, وكذلك كل اصحابك. وآمل تواجدكم بكثافة , وجودكم يدخل علينا المسرة .

اذهبي الآن واخلدي للراحة , ارتاحي كما تشائين, ولا تستعجلي الذهاب او الرحيل .

هجعت ضيفتي الى مضجعها. وفي الصباح, ذهبت الى المتجر برفقتها. اقتنيت مستلزمات البيت, من مأكل ومشرب . عرضتها على صاحب المتجر, مقابل السلع الغذائية, التي اشتريتها . فتقبلها بسرور ورحابة صدر. وابتسامات , اثارت شكوك الخوف فيها. الخوف من ان تقع في يد بخيل آخر, طريق الاموال اليه, مدخل بلا مخرج. فيسوقها الى ما تحت البلاط من سجن, كما فعل البخيل الاول.

 قبلتها, ووَدَّعْتُها, ثم اوَدَعْتُها بين يديه, على امل لقاء آخر مع مائة دولار اخرى .