لحظة خارج زمن

لحظة

خارج زمن

مأمون احمد مصطفى*

[email protected]

أصبحت أم حسن وهي تجلس على الشارع المؤدي للمسجد القديم في مدينة طول كرم، معلما من معالم ذلك الشارع، الذي اعتاد على احتضانها، بثوبها الموشى بأوراق الشجر، ودخلت ملامحها السمحة الطيبة، ذاكرة المتسوقين، كما تدخل التفاصيل الصغيرة، فكرة جامحة مستبدة.

 نادرا ما كنا نراها تبتسم، ونادرا ما كانت ترفع صوتها معبرة عن غضب غير مستوعب، أو عن دهشة مشحونة بالألم، امرأة وحيدة، أرملة، فقدت زوجها بعد الهجرة بسنوات قليلة، عاشت قسوة المخيم وشراسته، وتقلبت فوق شوك بؤسه، وتزاحم تناقضاته المتقلبة كعاصفة معبأة بالارتجاج والانخضاض.

 لكنها وبقوة وحزم، لم تتوافران لكثير من الرجال، شقت بساعديها الرقيقتين، طرق الاكتفاء والستر، واستطاعت من خلال عذاب متراكم، أن تنتزع من الأرض حقا لأطفالها الذين كانوا يرقدون تحت حنانها، كصيصان الدجاج المملوءة بالزغب النابت على لحمها الطري.

 تتميز بعلاقتها بالأشياء، أكثر من علاقتها بالبشر، وهذا ما كان يضيف إلى شخصها، نوعا من الغموض العذب، يشدك نحوه، فتشعر بأنك امتلكته، وحين تنقب بذهنك، تدرك انك لم تمتلك شيئا سوى الاندفاع نحو الظمأ وأنت ملفع بتلك العذوبة السحرية، التي تشدك نحوها، دون أن تمنحك من بريقها أو روعتها حالة اكتفاء أو اطمئنان.

 ومرة واحدة، انقلب وجهها الطافح برائحة الأرض ولونها، إلى عذاب مؤرق، ويأس ذو أظافر فولاذية، تنغرز لتدمي، وفقدت ذلك البريق الناهض من عينيها الحادتين، كعيني نسر فتيَ، وتحولت إلى كومة حطام مهشمة.

 منذ الطفولة، وأنا اعرف أم حسن، تجلس مكانها كل صباح، فارشة أعشاب الأرض أمامها، على قطعة خيش قديمة، رطبة، محملة بتراب الجبل وشوكه، تجلس صامتة، تبيع الناس، وما أن ينتصف النهار، حتى تراها تضم خيشتها على بعضها، وتنطلق نحو الجبل، لتقطف ما يباع في اليوم التالي.

 مكافحة، نعم، وصلبة، صلابة الصخر الذي تدوسه كل يوم، وهي تغرز خطواتها القوية في الأرض الوعرة، وبحكم خبرتها في الجبل، لم تكن بحاجة إلى التدقيق مكان موطئ قدميها، بل تتنقل ببساطة، وخفة وسرعة، لتصل إلى مخافي العشب، والورق، الذي أصبح مكونا من مكونات ذاكرتها المترعة بالخصوبة.

 وحين زرتها مساء ذات يوم لشراء بعض ما نحتاج، نهضت عن "جنبيتها" الصغيرة، لحظتئذ شعرت ولأول مرة، بأنها تقاوم التعب المتمكن من كل أجزاء جسدها، شعرت بالنقمة، بالغضب، بالذهول، وغاصت في حلقي مرارة الحياة كنصل ذو حدين.

 طويلة القامة، قوية الملامح، دقيقة التفاصيل، تذكرك بالسنديان الشامخ، نحيلة، تشتبك تفاصيلها، مع تراب الأرض، وشوكها، تتداخل سمرتها بجذع الصنوبر، وحين تنهض، تشعر بان جزءا من الأرض نهض من مكانه، بكل ما فيه من قوة وروعة، وبكل ما فيه من صبر، تفوح منها رائحة العشب المندمج يبعضه، رائحة تشدك نحوها بقوة، وتستفز خيالك، حين تدفعك لفصل الاندماج العشبي عن بعضه.

 ولحظة نهضت لتعطيني ما طلبت، دققت لأول مرة بحياتي بيديها المتعبتين، الذابلتين، وفوجئت، كيف لم أرى هذا التعب والذبول من قبل، وكيف كنت أتصور، بكل ثقة وجزم، بان هاتان اليدان المسحوبتان من الذراع، يملكان من القوة والصلابة ما استقر بخيالي من قبل، لمحت الخطوط التي تنتشر فيهما كوشم لحمي متناثر، خطوط من جروح مندملة، وجروح جديدة لم تندمل بعد، علامات الشوك الذي يقتحم حياتها في كل يوم، وعلامات الأغصان التي تخبئ خلفها أوراق "اللوف" أو "الزعمطوط"، لكنها أيضا علامات الحياة، التي نالت من هذه المرأة، وامتصت أنوثتها ونعومتها.

 دخلت غرفة واطئة السقف، تفح منها رائحة الرطوبة، وتتلون جدرانها، بألوان العفن والطحالب والزمن، وتتراكم في مساحتها أكياس الخيش الطافحة بطبيعة الجبال، تناولت بيدها بعض أغصان الميرمية، وخرجت، دستها بيدي وهي تقول بصوت خلتني اسمعه لأول مرة " الله يسهل عليك يمًا "، وحين مددت لها يدي بالنقود، قالت: " اليوم شايكم على حسابي "، تسمرت مكاني، كتمثال صخري، لا، لن نشرب الشاي على حسابك، حدثت نفسي، لو خرجت دون أن تأخذي النقود، لشعرت بالذل، ولغرقت حتى قمة راسي بالذنب، لا، لن أغادر مكاني قبل أن تأخذي الثمن، هذه الاوشام، وهذا التعب، والقدمين المتشققين، هذا الوجه الطافح بالألم، كل هذا، سيدخل كحزمة ذنوب تهدم ذاتي.

 وكأنها أحست بكل ما يجول في صدري، هزتني بيدها، فالتقط جلدي خشونة يدها المثقبة، قالت:- " يمًا، يا حبيبي، اهلك ينتظرون، اذهب إليهم وبلغ سلامي لامك "، شعرت بحاجة للبكاء، للنحيب، بل بنحيب يجمع المدينة كلها، ضاق صدري، وودت الانكباب على يديها، الثمهما، امتص منها كل الأوشام وكل الثقوب، شعرت بأنه من الواجب علي، أن انحني عند قدميها المتشققتين، أمسدهما، أدلكهما، حتى تختفي الشقوق وتتلاشى.

 ترى، لو كنت تعلمين أن هذه نهايتك، هل كنت دفعت بأولادك نحو الشهادة؟ نحو المعركة؟ لقد شاهدناك جميعا، وأنت تطلقين الزغاريد والدموع تملؤ عينيك، كلما جاءك الناس بجسد ولد منخول بالرصاص، كنت تقولين، بأنها دموع الفراق، كدموع من تودع ابنا مسافرا، لكنها تعلم انه سيعود، وأحيانا، كنت تقولين، هي دموع الفرح، ولكنك لم تقولي يوما، إنها دموع الحزن أو الأسى.

 وحين تداهمك ذكراهم، هكذا، كنت تنتفضين، انتفاضة الأرض حين تفاجأ بغيث صيفي، وتفوح منك رائحة، تشبه رائحة الصيف المندفعة مع حرارة الجو اللاهبة، وأحيانا كانت تغرق ذاتك كلها بالسهوم المتوتر، وتغور حرارة وجهك بقعر شديد البرودة، والتجلد، ولكن، ليس من احد في المدينة، رأى انك نادمة، أو حتى تنحدرين نحو الندم.

 أتعرفي يا أم حسن؟ أنا اعرف كثيرا من أمهات الشهداء، والكثير ممن اعرف، كن يلعن اليوم الذي قدمن أبناءهن للأرض، لا اعرف، لماذا؟ ولكني، كنت اشعر أنهن يبحثن عن ثمن، عن شيء يعوضهن شيئا ما، لم اعرف كيف أصفهن، ولكني اربأ بهن عن الثمن، فما يقدم للأرض، لا ينتظر ثمنه، لا يعوض، بل يدخل في تركيبة الأرض ذاتها، ليتوحد، ليصير جزءا من ذراتها، ولأكن صادق، أنا لا اعرف كيف اشرح هذا، أو أصفه.

 لماذا تظن هذا؟ ألم ادفع أنا، كأم، ثمن حبي لأولادي طلقات ولادة لا ترحم، لو كنت امرأة، أو كنت أما، لعلمت معنى اللذة التي قاسيتها وأنا ادفع بهم من رحمي إلى الوجود، لعلمت معنى الحب، والحنان، اللذان يعرشان كدالية محملة بالعناقيد، لعرفت معنى الاندماج فيما يتكون منك.

 الأمهات اللواتي تتحدث عنهن، لا يبحثن عن ثمن، وهل هناك ثمن يستطيع احد في العالم أن يقدمه لأم فقدت ولدها؟! هؤلاء يبحثن فقط، عن شيء، صغير صغير، من التقدير، تقدير فجيعتهن، يبحثن، في عيونكم، عن بريق، عن وميض، يوحي لهن بالبنوة.

 تماما، مثل الأرض، التي تتعهدك بالعطاء، كلما تعهدتها بالأبوة، رحمي الآن أصبح جافا، كالأرض البور، ولكن أمومتي، تنمو، كلما نموت، تكبر كلما كبرت، حاجتي للولد، تنمو وتكبر، تتعاظم، والناس من حولي، تمر، تغذ الخطى، تبتسم، تضحك، ولكنهم جميعا، لم يفكروا، ولو لوهلة عابرة، أن يمنحوني إحساسا بالبنوة، وكأن العالم كله، انتزع من ذاكرته، أن أمومتي تحتاج إلى قطرات من ندى.

 حين يجف الرحم، يجف العمر، وتجف الأشياء، يتحول ظمأ الوجود، إلى حقيقة تغص بالأم التي فقدت كل أبناءها، وتتحول إلى كومة من لحم يتثنى مع تثني الحياة، ولا تدب فيها الحياة، إلا في لحظة، تسمع فيها من أحدكم كلمة تعبر الزمن، وتخترق الكون، كلمة واحدة، لها نغمة الرحم والقلب، " يمًا ".

 ظلت كلماتها تدق في راسي، كمطرقة بركانية، تغوص، تدمر، تفتت، لم أكن أظن أنها تملك كل هذا الكبت من الانكسار، قفزت وشوم الشوك من يديها إلى صدرها، ماذا لو قدر لي أن اشق عن إحساسها؟ لكنت لرأيت كل دماء الكون النازفة تخرج من قلبها، ولشاهدت الشوك يتناثر في صدرها الصغير الضيق بعواصف من رياح لا تهدأ.

 كم نحن أغبياء، أنانيون، نطلب من الناس أن يكبتوا ألامهم، عذابهم، وحين يجرؤون على التصريح، ننهال عليهم، بالتهم، بالتفسيرات، نحاصرهم، بتبريراتنا المشوهة، ونطلب منهم، ببساطة، أن ينكفئوا على كل ذلك، راضين، مستسلمين، حتى الأمهات، اللواتي عشنا بهن، بأرحامهن، بين ضلوعهن، وامتصصنا بكل طاقتنا دماءهن وروحهن، وهن راضيات، سعيدات، نطاردهن بأنانيتنا وغرورنا، ونلزمهن بالتكور على عذاباتهن، حتى لا نرهق أنفسنا بالانتماء إليهن.

 وكان اليوم، الذي حملت الأخبار فيه، نبأ عودة الفدائيين والثوار إلى ارض الوطن، يومها، انقلبت أم حسن، من حالة الضياع والتشرذم، إلى نواة تتوهج بنور أزلي، قالت:- " دم أولادي لم يذهب هدر "، " عود الدم لا بد وان يبرعم، والبرعم يتحول إلى زهر"، اجتاحتها الفرحة، وغزتها السعادة، وتحولت من أم حسن التي لا تتحدث، إلى ثرثارة، لا يكف لسانها عن التحرك داخل فمها الذي أورق، وكانت أول امرأة، تطلق زغرودتها في سماء الوطن.

 لم تنتظر كغيرها وصول " أبناءها " من أريحا إلى طول كرم، بل وقفت هناك، تحت شمسها الكاوية، تصطلي عذاب الحر، وقسوة القيظ، دون مظلة، ودون قطرة ماء، وقفت كشجرة غرسها التاريخ على أعتاب الحد الفاصل بين نقطة ظهورهم، وبين قرص الشمس المتفجر، لتشاهد خطاهم الأولى فوق الأرض، ولتغرس زغرودتها في صدورهم.

 وحين وصلوا، اندفعت، فاندفعت معها الأرض كلها، وانبثق الشهداء من عينيها، وأطلقت زغرودة لم نسمعها منها، منذ رحل ابنها الأخير، اندفعت تعانقهم، تتحسس وجوههم وصدورهم، تزغرد وتبكي، نفس اللحظة التي كانت تودع احد أولادها وهو ملفوف بالعلم، تفحصت، سواعدهم، أرجلهم، كشفت عن صدورهم، تحسستها، خرجت من زمن إلى زمن، وحين عادت إلى المدينة، رأيناها قد عادت بأعوام كثيرة من عمرها الضائع.

 قالت:- " للدم خصوبة، تعرفها الأرض، وتعرفها الأم، فالأرض والأم صنوان "، وحين مر معلم ولدها حسن، وسمعها وهي تتحدث، قال لها:- " اصبري يا أم حسن، فنحن لم نعرف خيرهم من شرهم، انتظري، الله واعلم، إن كانوا عادوا وهم يحملون أرواح الشهداء، أم أرواح أخرى ".

 أم حسن، لم تقبل كلام المعلم، بل اتهمته بأنه يود أن يعلم الناس الحياة، ولم يكفه أن يعلم الأولاد القراءة والكتابة، وحملت عليه، حملة كادت أن تسقط بسمعته الحسنة، واستبسلت بوصفه بالجهل القادم من مرافقته للأطفال في المدرسة طوال سني عمره.

 وكأم حسن، كان أكثر الناس.

 قال لها احد أصدقاء ولدها الشهيد: يا أم حسن، هؤلاء دخلوا من نفس المدخل الذي ندخله، عن طريق الجسر، دقق اليهود بهوياتهم، وبملامحهم، وفحصوا صدورهم، فتشوها بنفس الطريقة التي فتشوا بها حقائبك، ثم قالوا لهم ادخلوا، من هذه الطريق، والتفوا من ذاك المسرب.

 لكن أم حسن كانت ترسم في ذاتها صورة الشهداء والأبطال، ثم تمزجها بوجوههم، بسواعدهم، بسمار بشرتهم، وكانت من قلبها تلفهم برايات الوطن الساكن حلم الأرض وحلم الناس، بل وزادت على ذلك بأنها ربطت بين قدومهم وبين العودة لديار الطفولة والميلاد.

 وزاد نشاطها، تحولت من العجوز التي تعرفها الجبال محملة بالهم والأسى، إلى فتاة يافعة، تنافس الصخور وتقتحم الوعورة، تغني أغاني العودة، وتنشد أناشيد الشهادة، حتى الأعشاب التي تقطفها، تحولت من أوراق تتجه نحو الموت، إلى اوراق وأعشاب، تتوج بخضرة الغناء والنشيد، وكأنها خلعت من مكانها لتحيا في روح أم حسن وفرحتها.

 كثيرا ما شاهدها أهل المدينة، وهي توقف احد العائدين، تتحسس جلده، وبريق عينيها المتوثب ينتشر كهالة من ضياء حول جسدها الراجف فرحة وحبور.

 كانت تسرد لهم قصص استشهاد أبناءها، واحدا تلو الآخر، بحماسة غريبة لم نعهدها فيها من قبل، ولم نسمعها أصلا وهي تتحدث عن شهدائها.

 وذات يوم، كنت مارا بالقرب من بسطتها المفروشة على الأرض، لمحتني من بعيد، كنت أحاول الاستتار بالناس، لكنها كالصقر، انقضت بصوتها وهي تلوح بيدها،" تعال يما"، شعرت بالرجفة، تمنيت من كل قلبي أن يكون النداء لغيري، فانا لا أستطيع أن أوقف مثل هذه الفرحة التي اقتحمتها، وفاء لها ولتلك الليلة التي حدثتني فيها عن أنانيتنا في ابتداع تفسيرات تدين أمهات الشهداء.

 اقتربت منها وقلبي يخفق خفقات متسارعة، وبدا على وجهي انقباض أحسسته حين حاولت الابتسام، وبدأ العرق يتفصد من مساماتي مع تقدم خطواتي نحوها.

 لم يكن لدي أدنى شك بأنها ستحدثني عن الذين عادوا إلى ارض الوطن، وستقول لي بأنها تعرف خصوبة الدم، وتعرف كيف يزهر، ستتحدث بسعادة من خرج أولادها من القبر فجأة لينتصبوا أمامها، كما ينتصب الحاضر من قبر المجهول.

 ماذا سأقول لها لحظتئذ؟ لا شيء، سأقف كما الأبله، كما المأخوذ، موزعا بين فرحتها وانتصارها، وبين خصوبة الدم التي تعرف، محاطا بأسوار من صمت عاجز، وذهول مستبد، وكل هذا سيكسر فرحتها، سيمزق أملها الممتد من الهجرة إلى اليوم، وسأكون من يشوي كل ما فيها من نضارة متفجرة، على لهيب غضى لا يرحم.

 وحين وصلتها، كنت قد أفرغت كل ما في من أحاسيس ومشاعر، تحولت إلى صخرة صماء، لا تعرف عن الحياة شيئا غير موت موغل في موت.

 " يما، أنا اعرف تماما كم تحب "اللسينة"، وحياة دم الشهداء، لتأخذهن على حسابي، والله – وبكسر الهاء- لن ادخل في جيبي مليم واحد، خذ يما، والله يفتحها بوجهك.

 مددت نفسي نحوها، وانحنيت، تناولت ما بيدها، وقبل أن تشعر أو تلتفت، كنت قد زججت نفسي بين المارة، بحركة اربكتها وأربكت من بجانبها من النساء، ولكني تمكنت من سماع صوتها وهي تقول: الله يحميه، وينور طريقه، الله وحده يعلم ما به.

بقعة الأرض التي تفترشها أم حسن ، ملك خاص بها ، طابو مسجل لها ، لم يكن هناك من يجرؤ ، أو حتى يحاول التفكير بالحلول مكانها ، ولو للحظات أثناء غيابها ، كانت الأرض تعرف أم حسن ، تشم رائحتها ورائحة العرق الممزوجة باللوعة والتعب والضنك ، وكانت هي الأخرى تتنسم رائحة الأرض بطريقتها ، وحين كانت تنهض من مكانها لتعود للبيت ، كنا نسمع شهقة الأرض وأنينها المملوء بالحسرة.

علاقة الجسد بالأرض عرفناها فقط من بقعة الأرض التي ضمت أم حسن ، ومن تقاسيم حزن مدفون بين طيات الجلد المتجعد الحاوي أسرار زمن محشو بالحنين .

هذه البقعة الصغيرة هي كل ما استطاعت أم حسن أن تجعله يتصل بذاكرة الزمن وذاكرة المكان ، لأنها من خلالها فقط ، أنشأت أولادها حتى نضجوا ، فقدمتهم هدية للأرض كلها ، هدية مصحوبة بزغاريد كانت تلتحم مع التراب والمدى لتعود وتتكوم في تلك البقعة الصغيرة التي كان الوطن كلها يزحف نحوها تكريما لتلك الأم .

رحيل اليهود لم يغير من شكل المدينة ، فالجدران ظلت كما هي ، تحمل نفس اللون وذات التفاصيل ، والشوارع لم تتخلى عن مكانها ، أو حتى التفافها هنا وهناك ، وكذلك البقعة الصغيرة التي تشكلت فوق أرضها ملامح الشهادة والوطن ، ملامح الأمومة القادرة على انتزاع الحياة من صخر الجبال ، ظلت البقعة تنادي أم حسن ، وظلت أم حسن تأتي لتمنح البقعة رائحة الوطن ورائحة الأمومة .

لو تبادر إلى ذهنك يوما ، خاطر بسيط ، ماذا لو طلعت شمس يوم على تلك البقعة بدون أم حسن ؟ لو خطر ببالك هذا الخاطر ، فانك ستشعر بعمق المستحيل القادر النهوض من الخيال ليكون ذلك المشهد ، ولتنبهت فورا لرحيل المدينة والناس إلى مساحة لم تعرفها الأرض ، ولم تنبت في ذاكرة الأكوان .

المدينة تتشكل من ملامح إسمنتية ، لكنها أيضا تتشكل من ملامح الناس التي تمنح الاسمنت والشوارع والأمكنة والالتفافات ، نوعا من حياة ، فالسور الذي يحيط بمدرسة الفاضلية ، يستطيع أن يتنفس ، وان يرى ، وإذا ما تعمقت بالنظر والتدقيق ، فانه سينطق ، سيحدثك عن تاريخ الثورة التي فجرها الطلاب أكثر من مرة ، ولرسم لك شكل المظاهرات التي كانت تخرج من هناك لتصل إلى العالم كله ، ولحدثتك تلك الجدران عن صلتها بالقاضي الفاضل .

وإذا تأملت دوار جمال عبد الناصر ، فانه سيحدثك وبصوت مسموع ، عن الناس الذي مرت من فوقه ، وسيحدثك عن ماهر الجيوسي ، الشاب الخجول الحيي ، الذي قادته المأساة إلى الخمر ، فلم يستطع الاندماج بأخلاقها ، ولم تستطع تلطيخه بما تحمل من أوزار وخطايا ، ولقال لك ببساطة كيف مات مقتولا ، وكيف تحركت سيارة الإطفاء لغسل المكان من دمه .

كل الأمكنة تحمل ذاكرة حية ، لكن بقعة أم حسن ، القريبة من المسجد القديم ، تحمل ذاكرة خاصة ، تمتد من وطن مسلوب ، إلى هجرة ، فموت زوج ، فكفاح تربية ، إلى مرحلة الشهادة ، فمرحلة الزغاريد .

كانت المدينة برمتها قادرة على تصور الوطن بدون شاطىء ، بدون موج ، بدون ياسمين أو دحنون ، وحتى بدون شمس أو ضياء ، ذلك كان ممكنا في الذاكرة ، لكن ، لم يكن بامكان المدينة ، أن تتصور تلك البقعة بعيدا عن أم حسن ، أو حتى تصور أنها لن تعود في اليوم التالي لتفرش أعشابها وتتربع وهي تدخل مساحات اللحظات والزمان .

وذات صباح .

كانت البقعة مكانها ، وكانت أم حسن كعادتها قد افترشت الزمن والمكان ، وأمامها خيشتها التي تضم أعشاب الأرض المنوعة ، اللغط والحوار والوشوشة تدور في الأجواء ، والخطى تغذ نحو السوق ، تحايا الصباح ، تمتزج بأصوات الباعة من كل الجهات " أصابع البوبو يا خيار" " بندوره حمراء مثل الدم " زعتر حراق " بابونج الصبايا " ، حياة ، حياة تنبعث من النفوس والجدران والأرصفة والشوارع ، وروائح الخضار والفواكه والأعشاب البرية تتشابك وتندغم لتعطر الجو بروعة من سحر لا يملكه الخيال .

من بعيد ، جاءت أصوات غاضبة ، تصرخ وتسب وتلعن ، ثورة من حنق لم تسكن السوق من قبل ، الجموع المحتشدة كانت تفصل بين الحدث وبين الرؤية ، ظلت الأصوات تعلو وتقترب ، تتمازج مع دعوات مذهولة ، مشروخة المعنى والصوت ، وما هي إلا لحظات حتى كانت خيشة أم حسن ترتفع بالجو لتحط بعيدا وقد تناثر كل ما عليها من أعشاب .

أحسسنا شهقات الأرض وهي تستقر بعيني ام حسن ، وكانت البقعة تضغط على قلبها وروحها ، وقف الجميع أمام المشهد كالمشدود بقوالب صخرية نحو لوح من فولاذ ، وبدأ الجو بالاصفرار ، بالشحوب ، وانتشر الانشداه فوق المسامات المتداخلة مع الزمن .

أفراد الشرطة الفلسطينية ، الذين شعروا بقوة لباسهم ، وقوة أسلحتهم مرة واحدة ، كانوا ينتشرون هنا وهناك ، يقلبون عربات الخضار ، ويرفسون ببساطيرهم اللامعة كل الأواني والخيش والصناديق التي تأخذ من السوق موضعا لرزقها منذ سنوات طويلة .

وحين وصلت بساطيرهم إلى خيشة أم حسن ، وجم الناس ووجم المكان ، تنهد الزمن تنهيدة كانت كافية لتمزيق قلوب المدينة ، تأوهت السماء ، فأحسسنا بان مئذنة المسجد القديم سوق تسقط وسط السوق ، وتوجهت كل العيون ، كل النفوس ، كل المساحة نحو أم حسن التي بدت ولأول مرة بأنها مستعدة ليس للبكاء فحسب ، بل وللنواح القاسي ، نواح يلف الوطن والتاريخ والزمن .

لم تنهض من مكانها ، لكنها أشارت للشرطة بيدها ، فصرخوا بها ، لكنها ظلت تشير إليهم أن يقتربوا منها ، لم نكن نعلم ماذا ستفعل ، لكننا كنا مكبلين بنوع من المجهول الذي لا يوصف ، وحين تقدموا نحوها ،

سألها احدهم :- ماذا تريدين ؟

قالت :- الديك مقص يا بني ؟

ولماذا ؟

 لأقص لساني الذي زغرد يوم وصولكم ارض الوطن .

خبر :-

" لم تشاهد أم حسن بعد ذاك اليوم أبدا ، وظل اختفاءها لغزا يحير المدينة والجبال والأعشاب والأرض والوطن "

               

*فلسطين- مخيم طول كرم