المقامة التبريزية
د. سعيد عبيد
إِنْ تَسْعَدُوا أَسْعَدْ، وَإنْ "تَحْبَنْطِِطُوا"
أُحْبَطْ، فَأُكْوَى فِي سُوَيْدَاءِ الْكَبِدْ
فأعجب الشابَّ منطقي وراقه، حتى كاد يُعوّج من الإعجاب رِواقه، ويمزق صِداره،
وينسخ حزنه ووقاره، فرماني بشطر آخر لأجيزه، فقال:
بَلْ أعْدَمُوهُ ومَثَّلُوا بِكفَاءَتِهْ فَبَكَتْ
لِمَقْتَلِهِ الطُّيُورُ عَلَى الشَّجَرْ
وعدت لأقول:
والْوَرْدُ فِي سَاحِ الْمَرَاكِز*ِ قَدْ ذَوَى
وَأَخُوهُ بالأَقسَامِ** نُكِّسَ فَانْكَسَرْ
وقالت أخرى:
فَإذَا مَرَرْتَ بِهِ فَأقْرِئْهُ السَّلاَ
مَ الْمُرَّ مِنْ شَوْكِ الصَّبَاحِ إِلَى السَّحَرْ
وقال آخر:
يَا وَيْحَهُمْ، ثُمْ وَيْحَهُمْ، ثُمْ وَيْحَهُمْ
أَكَذَاكَ يُفْعَلُ بِالْخِيَارِ مِنَ الْبَشَرْ؟!
فأجبته مبتسما:
أَفَخِلْتَ أَنِّي بِالْبَدَاءَةِ مُحْبَطٌ؟
كَلاَّ، فَلَوْلاَ خَيْبَتِي لَمْ أَنْدَحِِرْ
وهكذا مضت بنا شياطين الشعر في كل واد، لم نترك بيتا من شعر شكوى الظلم إلا
نشرناه وتمثلناه، ولا شطرا من ذم الزمان وأهله إلا ذكرناه وأجزناه، حتى اقترح أستاذ
من القوم نجيب، قد حباه الله بعقل لبيب، ولسان أريب، أن نجمع ما أنشدناه في ديوان
نسميه "ديوان المظالم" أو "شهقة النائح ولطمة النادب في ذكر ما نال أهل التبريز من
النوائب".
ولما أن أفقنا من سكرة الشعر وسحره، قام في القوم خطيب مِصعق، شجاع الجَنان، فصيح اللسان، فحمد الله وأثنى عليه، ووطَّأ لحديثه خير مُوطَّإ، فتدفق الكلام من فيه سلسبيلا، ولم يتلكأ، ثم تصوَّب في دروب القضية وتصعَّد، وعدد النكايات التي لحقت بالقوم، فتهدد وتوعد، ثم أحجم برهة، وتنهد تنهيدة حرَّى، وألحق بها أخرى، ثم واصل والغمَّاء تعتصر فؤاده اعتصارا، وتهتصر روحه اهتصارا، وبصدره أزير وأجيج : "أبعد سهر الليالي في طلب المعالي نضحي كقابض على الماء خانته فروج أصابعه، أو كمن غره السراب، فهلك- بعد لأْيٍ- دون مواضعه؟ لهذه تالله قسمة ضيزى، ما تركت لحُرمة التبريز تبريزا، وما حمت لظهره ظهرا، بل لقد حفرت للحده قبرا. فماذا تقولون يا إخوتي في الله ومبارزيَّ في التبريز، وأنتم أصالة الرأي وحِلية الفضل؟" قالوا : "بخٍ بخ! ما نراك تنطق إلا بحق، ولا تلهج إلا بصدق... سُقيا لك سائر هذا اليوم!" فأردف مهتاجا، والرذاذ من فمه يتناثر ثجاجا : " أيجزوننا جزاء سِنِّمار، والكل بفضلنا شاهد، ويخذلوننا في رائعة النهار، ونحن للتعليم في هذي البلاد كملح الموائد؟ ألئننا لم نبارز للفخار أغرى بنا السفهاء حتى شتتونا في كل دار، ولم يرقبوا فينا وُدا ولا سُواعا- تنزهتَ إلهي- ولا عشتار؟ لبيس ما سولت لهم أنفسهم لو كانوا يعلمون". قالوا : " قد – والله – لمست الجرح، وإن يمسسك قَرح، فقد مسنا مثلك القَرح. لا فض الله فاك، وحاباك ولا جافاك".
فلما سمع ذلك منهم، سرت حُمَّى الحَمِيَّة فيه، فرفع عقيرته وقال بملء فيه :" وهؤلاء الذين احتلوا مناصبكم ظلما وعلوا، يخطرون في رياضها تيها وزهوا، أترضون أن يبقوا هنالك على جراحكم يرقصون وأنتم ها هنا قاعدون؟ إن هذا لمن قِصر الهمم، والرضى بالنقم على ما أولى الله تعالى من واسع النعم". فلوحوا بأيديهم احتجاجا، وضربوا بأرجلهم حتى ارتجت الأرض من تحتهم ارتجاجا، وزمجروا وجمجموا، واهتجوا في ذلك اهتجاجا. فلما علم أن قلوب الجمع على تصديق ما قال منعقدة، وعزائمهم على ما حض صحيحةٌ مجتمعةً ومنفردة، قال وقد حميَ وطيسه، وقعقع حسيسه، كأنه طارق عند البوغاز، أو تيمور لنك أعلى القوقاز: " فقوموا وقولوا لا وألف لا، وقفوا- لا أبا لكمُ- موقفا رجلا. واعلموا أنا جميعٌ في الهم شرق، وأن للحقوق بابا بكل عزيمة صلدة يدق". فتقدمَنا نحو باب الوزارة فشايعناه، ونادى جهارا فاتبعناه، ورفع شعارا فرددناه، وفي القلوب ألف آه وأوَّاه..
وبعد دقائق لا تزيد، كنا في مخفر الشرطة مركوم بعضنا فوق بعض، تحيط بنا الكلاب والهراوات من حيثما نتلفتُ، وأي امرئ من قبضة المخزن يفلتُ؟ وبعد ألف سين وجيم، خلالها قنطار لام وميم، تململ كبيرهم في كرسيه كجلمود صخر، ثم دلى على أنفه نظارتيه، وأسمعنا من القول الهُجْر، والشتم النُّكْر، ما لم نسمع له نظيرا طول العمر. ثم أرخى الحزام عن كرشه، وهو بعدُ جاثم على عرشه، وطفق يشرح لنا نظرية الحقوق، ويستنكر منا الكفران والعقوق، ويحظنا على حفظ النظام، لما فيه من خير للأنام وسائر الدواب والهوام، ما هب منها وما دب، وما زحف وما عام. وبعدها امتعض وتأفف، وتنخم وبصق، وذفذف وخفخف، و"نفح" ما اتفق، وقال منتفخا وهو يوقد سيجارة أخرى : "ثم ما هذا التبرُّر الذي أنتم به تتشدقون، وقدَّام الوزارة بسبب منه تتجمهرون تشاغبون؟ إننا ما سمعنا بشيء اسمه التبرُّز في الأساتيذ الأولين". فقلت له وفي النفس حسرة لا تعدل وقدتها جمرة : " هو التبريز يا حضرة الضابط، وليس بالتبرُّز". غير أنه أشاح عني بوجهه إشاحة متكبر، ورماني بنظرة مستعل متجبر، ومضى يدمدم ويهمهم، ويقدم ويؤخر، وهو يحسب أنه على شيء، وبين هذا وذاك يردد تلك الكلمة الكريهة حتى جعلها لازمة كلامه، وفاصلة ملامه.....
ولما لم أطق صفاقته، ولم أتحمل سفاهته وصلافته، برزت له والحِنق بي مستبد، والغيظ نار تتقد، وصرخت فيه بكلمات كالشرر : " لقد جئتَ من كبائر الخلط المقَزِّز، ما كان ينبغي لمثلك عنه التحرُّز؛ فشتان بين التبريز- يا هذا- والتبرُّز! قبح الله التخليط وأبعده، وقاتل الجهل، ما أفسده! " غير أن نكيري لم يزده إلا إصرارا، فكنت معه كنوح إذ قال لقومه استغفروا ربكم إنه كان غفارا، إذ أخذته العزة بإثم ما قال واستكبر استكبارا، فمازال يردد تلك الكلمة ويُرجِّع، ويطرِّز بها كلامه ويُسجِّع، ويرد الأعجاز على الصدور، ويهزهز بها رأسه وهو يفور ويمور، وما درى أنه أفحش فأوجع، وأوغل المُدية فأفجع، حتى بلغت المصارين الحناجر من الغثيان، ونضج الكبد والطحال من الغليان، وخِلته من كثرة فحشه سيتجشأ، وخلتنا من وجع القلوب سنتقيأ، فتمنى القوم الموت فلم يجدوه، وطلبوا السم الناقع فافتقدوه. فرجعت إلى نفسي، فاتهمت حصاتي، وقلت لها : " يرحم الله أبا الطيِّب، أبعد هذا التبريح تبريح، و مثل هذا التجريح تجريح؟" و لما أيِست من لسان الرجل تقويما، وادَّكرت بعد غُمة أن التعلُّم في حقه محرم تحريما، ملت على صاحبي، وقلت له : " سُلَّ يَراعك من جيبك إن تركوا لك يراعا، وإلا فاجعل دمي حِبرك، وريشتك في يمه شراعا، واكتب عندك :
يَـا ضَـيْـعَةَ التَّبْرِيزِ عِنْدَ وَأبٍ ظَـلُـومٍ ضَـامَ حَقَّ عِيَالِهِ مَكَرُوا طِوَالَ اللَّيْلِ لَمْ يَالُوا، وَهَلْ حَـتَّـى إِذَا طَلَعَ الصَّبَاحُ بِحُلَّةٍ سَرَقُوهُ رَوْنَقَهُ الْجَمِيلَ، وَخَرْبَشُوا ثُـمَّ انْـثَنَوْا نَحْوَ الْحِبَالِ لِرَبْطِهِ يَـا لَـلْـخَدِيعَةِ وَالْوَقِيعَةِ وَالْخَنَا إَنْ كَـانَ عِـنْدَكُمُ التَّسَافُهُ مَنْهَجاً | خَلاَئِقِ هُـمْ بَـيْـنَ مُـبْـتَذِل لَهُ وَأَخٍ حَـسُـودٍ -وَيْـحَ أُمِّهِ- حَانِقِِ يَـحْـلُو الْهُجُوعُ لِذِئْبِ لَيْلٍ وَامِقِ؟ سِـوْدَاءَ لاَ شَـمْسٌ بِهَا فِي الْخَافِقِ قَـسَـمَـاتِـهِ بِـحَمِيمِ مَاءٍ حَارِقِ وَرَمَـوْهُ غَـدْراً فَِي الْخَلاَ مِنْ حَالِقِ مِـمَّـنْ رَجَـوْنَـاهُمْ لِحُلْمٍ رَِائِقِ! فَـطِـبَـاعُـنَـا تَأْبَاهُ، لَيْسَ بِلاَئِقِ | وَمُنَافِقِ
قال الصاحب : فما نبس إحبيط إلا بتيك الكلمات حتى تصفَّر وتزعفر، وصار إلى السقام، وتكدَّر وتمعَّر، وعافت نفسه الكلام والطعام، وتمنى لو تخطفه الحِمام قبل أن يسمع ما سمع من سِفْلة الأنام.