سيارتي والكراسي الطائرة

من دفتر يومياتي

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

لا أنسى صباح هذا الإثنين البارد الذي انطلقت فيه بسيارتي إلى الميكانيكي في "بولاق أبو العلا"، وهو من أشد الأحياء زحامًا في القاهرة، لقد أصيبت سيارتي "بحالة" لم أرها فيها من قبل، وهي أنه كان يصدر منها صوت كالشخير، كأنه اعتراضٌ صوتي على الأوضاع السياسية التي نعيشها، فحصها الميكانيكي فحصًا أوليًا، ثم هز رأسه، وقال في ثقة واضحة:

ـ آه.. دي عايزة شغل ـ إن شاء الله تيجي تأخذها بعد ساعتين.

ـ ساعتين؟.. بسيطة، انتظر في المقهى المجاور.. هذا أفضل، وأوْفر لوقتي.

وجلست في المقهى الذي يكاد يكون ملاصقًا لورشة الميكانيكي، وقلت في نفسي لا شك أن شعور "الأسطى" بوجودي سيدفعه إلى الجدية في العمل، والإسراع في إنجازه.

كان المقهى مزدحمًا بالجالسين، ولا تسمع إلا أصواتًا مختلطة، تصدر من شاربي الشاي، والقهوة، ولاعبي "الطاولة" وكركرات الشيشة التي يسميها إخواننا الشوام "النرجيلة"، ودخان السجاير يختلط بدخان "البوري"، وهو يشبه الشيشة إلى حد كبير، وإن كان أقل منها فخامة.

ولا تعدم أصوات اعتراضات بين لاعبي الورق (الكوتشينة)، واتهام بالغش أحيانًا.. وقد يأخذ الاعتراض صيغة حادة فيصف أحدهم الثاني بأنه "حرامي"؛ لأنه "سرق الورق"، أو تعمد الخطأ في الحساب لمصلحته، وتسمع نداءات عامل المقهى (النادل) موجهة للعاملين في "النصبة"، وهي مركز إعداد "المطلوبات" من شيش وشاي، وقهوة، وغير ذلك، والتقطت من هذه النداءات: "حجر حمِّي" شاي على مية بيضة، شاي خمسينة، حلبه حصى، واحد مضبوط بنّ تقيل.

وجلست أتأمل هذه النوعيات من الناس: منهم مشغولون بلعبة الكوتشينة، أو "الدومينو"، أو "الطاولة" , وبعضهم مشغولون بأحاديث هادئة في أحوال الدنيا، أو السياسة، أو الأسرة، أو التجارة، ومنهم من دفن عينيه في صحيفة يتابع أخبار اليوم، ومنهم من خلا إلى "شيشته" يسحب منها "الأنفاس" بعمق، ويخرجها زفيرًا من دخان كثيف من أنفه وفمه.. وأحيانًا ينفخ في نار الحجر، ويكبس الجمرات بـ "الماشى" حتى يصهلل الجمْر، ويؤدي مهمته على الوجه المطلوب، أما أنا فكانت عيناي إلى سيارتي، والميكانيكي يعمل في إصلاحها بهمة ونشاط.      وفجأة دخل شخصان في قرابة الأربعين من عمرهما، وسحبا كرسيين، جلسا بالقرب مني، وبينهما مائدة صغيرة من موائد المقهى، قال الأول للثاني وعلى وجهه مسحة خفيفة من الحزن::

ـ الله يرحمه يا أحمد.. مات وهو في "عز شبابه".. طبّ "ما حطِّش مَنْطَق".. كان شابًا "ملْو هدومه.. الموت "خطفه خطف".. والحمد لله ؛ مات يوم اتنين .. يوم عطلتكم .

ـ  والله لو كان بيدخل لي في اليوم ده ألف جنيه لقفلت صالون الحلاقة علشان أحضرالجنازة ,وأصلي عليه .  هيه ...الله يرحمه، كان ابن حلال (..بعد لحظات من الصمت): تعرف يا حسن: أنا لو متّ فجأة كده.. دون سابق إنذار.. أعيش "متعكْنن" آخر عكننة طول عمري.. أيْ والله.

ـ لك حق.. لك حق يا أحمد.

     وفوجئت برجل يكبرهما سنًّا ـ كان يجلس مجاورًا لهما ـ ينتفض، كأنما لدغه ثعبان، واندفع يقول في لهجة حادة ـ حق إيه، و بتاع إيه؟!! (ووجه كلامه إلى أحمد): إيه الكلام الغريب ده اللي أنت بتقوله "أنا لو مت فجأة في شبابي ده أعيش متعكنن آخر عكننة طول عمري . عمركَ؟! عمرك ده فين؟ هوّ حيبقى لك عمْر؟؟ ما أنت حتكون متّ.. وخلاص."

ـ ما هوّ ده اللي حيخليني متعكنن.. آخر عكننة.

ـ آه طول عمري.. فيها حاجة دي؟؟!!

ـ دا فيها حاجات.. قل لي: عمرك ده قبل ما تموت، ولّا بعد ما تموت؟

ـ طبعًا بعد ما أموت.

ـ الله؟! يبقى فين عمرك ده بعد ما تموت؟!!

ـ عمري اللي حقعد متعكنن فيه..

ـ يا محترم...وحـدَة ... وحـْدة ..؛ لأنك بتقول كلام يجنن!!.

ـ يجنّن؟؟!.. يجنن مين؟؟

ـ يجنني.. ويجنن كل اللي يسمعه.

ـ ونا مالي يا سيد!!؟ ما تتجنن .. ولاّ أنت حر.. آه أنت حر في جنانك.. إحنا في عصر الحرية "والدمكْراتية" يا سيد.. يعني إحنا الاتنين أحرار.

ـ (في نبرة ساخرة) الاتنين؟؟ هه؟ الاتنين الحلاقين بيقفلوا..

     وهنا هب أحممد  هائجًا:

ـ نعم؟؟ إيه قلة الأدب دي؟.. أنت بتتريق عليّ علشان أنا حلاق؟! الحلاق سيدك، وتاج راسك.

ـ آسف.. والله ما كنت أعرف، خلاص حقك عليّ، حنزِّل لك شاي على حسابي.

وهنا يهيج حسن صديق أحمد الذي التزم الصمت حتى هذه اللحظة:

ـ شاي إيه، وزفت إيه؟؟! أنت حتديلة رشوة يا سيد؟ الأسطى أحمد ده ابن ناس، أعوذ بالله، دي حاجة تعكنن.

ـ تاني؟!! وأنت برضه حتقعد متعكنن طول عمرك زي صاحبك أحمد الحلاق لو متّ فجأة؟

وعلت الأصوات واحتدت واختلطت، وتداخلت. وترك صاحب المقهى منصته الصغيرة في الركن الداخلي بالمقهى، وصرخ فيهم جميعًا.

ـ يا جماعة اخزوا الشيطان.. أنتم مش شايفين المصايب اللي نازلة على الناس، وأخرها عمارة الإسكندرية اللي دفنت كل سكانها بعد انهيارها؟!! اخزوا الشيطان يا ناس.. وكفاية عكننة.

ورفع أحمد كرسيه ليهوى به على رأس صاحب المقهى:

ـ .. وأنت كما يا "مقيّــح" بتتريق عليّ، وتقول "عكننة"؟!

ـ الله؟!! وفيها إيه؟ هوّ أنت سجلت الكلمة باسمك في الشهر العقاري؟

ـ بقول كفاية يا مقيح.. لاحسن أخليك أنقاض زي عمارة الإسكندرية.

ـ أنا مقيح.. يا حلاق الحمير؟؟!!

ـ أنا حلاق حمير..؟؟ يمكن علشان حلقت لك ولأمثالك.

وازداد الضجيج، واختلطت الأصوات في حدة أشد، ورأيت الكراسي ترتفع، وتطير، وتتعانق مع أقبح الشتائم. ورأيتني أسجل رقمًا قياسيًا في القفز إلى الشارع، خوفًا على نفسي.. فحتى لو خرجت سالما من المعركة ,فإن أيسر الاحتمالات : أن "يلبس" أحد الكراسي الطائرة رأس أحمد، فيحقق معنا جميعًا، ونصبح ما بين متهم وشاهد.. ونعيش أيامنا في "عكننة ".   ووجدتني في الشارع العمومي بعيدًا عن المقهى، وبعيدًا عن ورشة الميكانيكي قرابة خمسين مترًا.. ومن نقطة وقوفي ناديته:

ـ هيه يا أسطى.. خلصت العربية؟؟

ـ لسه يا بيه.. قدامها عشر دقائق.

ـ طيب أنا في الانتظار واقفًا في الشارع العمومي.

ـ في البرد ده؟

ـ في ستين برد زي ده، فلسعات البرد، ولا عض الكراسي الطائرة.