كيف عاديت كل نساء الحارة

كيف عاديت كل نساء الحارة!!

نادر أبو تامر

ربما تتساءلون هل العنوان له علاقة بمسلسل "باب الحارة".. ربما؟!

إذهب يا يما وأحضر السكين!!!

لماذا تريدين السكين؟ سالت أمي التي كانت تصافح جارتنا أم هاني التي كانت تنقل الدجاجة التي تحملها بيدها اليمنى إلى اليسرى لتصافح أمي باليمنى.

وعندما تأخرتُ، وأمي لم تعرف أنني كنت اتلكأ بصورة متعمدة، ذهبت هي إلى المطبخ لكي تضع الماء على النار. غلاية القهوة جاهزة عند أمي. تأتي إليها كلّ نساء الحارة لتذبح دجاجاتهن. القهوة في بيتنا أهم من الماء. أحيانًا ينقطع الماء. البلدية، بسبب مشاكل عديدة مع شركة مكوروت ومعنا تقطع الماء عنا أحيانا، أو تفك الحبّاس، لكن أمي تجد الماء دائمًا لطبخة قهوة مع الهال. والطقس اليومي الذي أشاهده بأم عيني. أم كمال تأخذ الفنجان. تلطشه نظرة عميقة. حادة. جازمة وحاسمة حتى بدون أن ترمش. وتخبر أمي بأن هناك من يتحدث عنها بالطيب. أو بغير الطيب. وأم هاني أخبرت أمي مرارا أن هناك رسالة في الطريق إليها. عصر البريد الالكتروني كان بعيدا عن هذه الأيام. لم نحلم إلا بان نفك الحرف. لكن أمي كادت تفك رقبتي. خاصة عندما رأت أن أم فوزي أيضا واقفة عند بوابة الدار. وهي الأخرى، مثل أم هاني حاملة دجاجة بيدها وأنا لا أتحرك لجلب السكين.

"هيا بسرعة يا ولد"، نهرتني أمي بعيدا عن حنانها الذي أعرفه. "هات السكين بسرعة".

"فتشت ولم أجد سكينا"، قلت

معقول؟ لم تجد السكين؟

السكاكين مطلوبة في تلك الأيام. كلّ رجال الحارة يتوجهون إلى أعمالهم في ساعات الصباح. ولا يوجد رجال عاطلون عن العمل ليذبحوا الدجاج إلا أنا. لم تكن بطالة متفشية كما هي الحال اليوم. كان الرجال يعملون. إلا أنا. عندما كانت أمي تريد إقناعي أنني ما زلت صغيرا تقول لي: الرجال يذهبون للعمل، أما أنت، ولأنك صغير، فأنت لا تذهب إلى العمل.. واقتنعت أنني صغير فعلا...

ثم عادت لتؤنبني من جديد: "فتش في الجارور الصغير. في الجارور الشمالي"، وهي لا تعرف أن كلّ الجوارير لن تشفع لها. فأنا قررت أن لا احضر السكين.. أنظر إلى الدجاجة الممصوعة في يد أم هاني واغمزها بأن لا تقلق... ثم أعض على شفتي لدجاجة أم فوزي لأطمئنها. لا تقلقي يا عزيزتي.. لم أجد السكين..

لكن يا فرحة ما تمت وخصوصا فرحة الفرخة.. فنهضت أمي من مكانها، رفشت صينية فناجين القهوة بقدمها الحافية. كانت تجلس على الساحة الشرقية من البيت في ساعات الصباح. الدنيا ربيع والجو بديع والمصطبة دافئة. تشربت أشعة الشمس التي نفخت في مساماتها بعض الحرارة. وأمي تحب أن تدعس على المصطبة الدافئة. أبقت شحويطتها في المطبخ. وضعتني تحت الاختبار. ستفتش هي بنفسها عن السكين. ويا ويلي إذا كانت هناك سكين في أي واحد من جوارير الدار. يا ويلي. اقتربت من الجارور الأول، فتحته، فلم تجد. تنفستُ الصعداء. بيني وبينكم أن سأواصل تنفس الصعداء مع كلّ الجوارير. لماذا؟ لأنني خبات كلّ السكاكين في صرّة ملابس جدتي في الخزانة. وأمي لن تجد سكينا.

بينما كانت أمي تعود إلى صديقتيها من المطبخ، كانت جارتنا فاطمة التي تناديها أمي بأم رياض مع أنها ليس لديها زوج.. ولا أعرف لماذا.. أمي أخبرتني لاحقا أنها قد تزوجت في الماضي، لكن زوجها أبو رياض، مات بالجلطة قبل عدة سنوات (رياض هو ابنه من زوجته الأولى). ومن العيب أن ينادوها باسمها.

أم رياض كانت مشمرة عن رسغيها وكوعيها وحاملة هي الأخرى دجاجة كبيرة... من بعيد أشارت إليها أمي أننا لم نجد السكين. فسحبت أم رياض سكينا بحجم كبير من تحت زنارها ولوحت به وكأنها تشارك في طوشة عارمة من طوش الحارة. هذه المرة لم تعد هناك أي حجة. وكما يبدو فلا بد أن أقوم بمهمة ذبح الدجاجات. إذا كنت اهرب من ذبح دجاجة واحدة فها هن نساء الحارة يحملن كلّ فراخ الحارة دفعة واحدة. وسأذبحها.

بالكاد بلعت ريقي. أمي تريد مساعدة نساء الحارة. تريد أن أقوم أنا بذبح الدجاجات. كلّ واحدة من ضيفات أمي تحضر وجبة غداء لزوجها الذي سيعود مرهقا من العمل بعد ساعات. لم يعمل احد في الحارة موظفا. كلهم كانوا يعملون بالبناء والزراعة وبعض المهن الشاقة الأخرى.

لاحظت أمي أنني مرعوب تمامًا من المهمة التي تنتظرني. فعادة كان أخي عوني الذي يكبرني بقليل هو الذي يتفنن بنحر الدجاجات. وأمي لم تتعود على إحراجي أمام الجيران. كنت أتوقع أن تقول لي: هيا أي عزيزي. تعال اذبح الدجاجات لجاراتي..

لكن، بعدما اتخذت أم رياض مجلسها بين النساء وانهمكن في الحديث عن آمنة بنت أبو ذياب التي جاءت مع ابنيها إلى بيت أبيها زعلانة وحردانة من زوجها، نظرت إلي أمي وغمزتني. ثم قطعت الحديث مع جاراتها فجأة وقالت لأم رياض: خسارة يا أم رياض. لم أجد حجر المسن لأمضّي السكين. وحرام نذبح الدجاجات بسكين غير قاطع.

انزاح عن صدري الصغير همّ كبير. لكن الجارات غادرن إلى بيوتهن ينظرن إلي نظرة غضب. خصوصا أنني الرجل الوحيد في الحارة عندما يتواجد الرجال في الحي. وأنا أصلا استغربت. عندما أرغب بشرب القهوة تقول لي أمي: ما زلت صغيرا. لكنني سرعان ما أصبح كبيرا في نظر جارتها، عندما تريد أن اذبح لها الدجاجة. كيف سترضي كلّ منهن زوجها إذا لم يأكل دجاجا اليوم.

بعد نصف ساعة قرع الباب الذي كان ما زال مفتوحا. نحن لا نغلق الباب إلا في الليل. نظرت من بعيد فرأيت جاراتنا وقد عادت كلّ منهن تحمل دجاجتها وسكين أم رياض وكانت أم هاني تلوح هذه المرة بحجر المسن الذي وجدته في مخزن بيتها...