أسامة وحناء العيد
عصري فياض
الطفولة في هذا المخيم بضع صور،بكاء وغضب ،وحليب ممزوج بإكسير الرجولة،وقدمان حافيتان تقاومان الحجارة والحفر،وعينان تلمعان براءة في والوجه الشاحب النحيف،وحرمان يدفع العربة إلى سوق الخضار ...
تلكم هي طفولة أسامة وأبعاد مساحته وأطراف عباءته السوداء،لكن روحه الخفيفة ترف فتشد أطرافه إلى أعلى ليطير فتسبح في أفق حلمه الرمادي...شرب أسامة من ماء المعاناة علقم،فنبت حوله شوك التحدي والعصيان... وإبتسامة لا تغادر محياه.
* * * * * *
لم تستوعب أم الشهيد أمجد جرأة صديق إبنها أسامة المعروف بحيائه البريءوهو يتخطى النساء اللواتي قدمن لوداعها قبل أن تغادر للديار الحجازية،فقبل رأسها وإبتسم وهو يلمح الدمع في يلمع في عينيها وغادر لآخر مرة ...،فجلست تقص على النساء أحاديث امجد وأسامة واصداء الضحكات الباقية وبقايا اكواب الشاي والزعتر وترحالهم اليومي إلى ضاحية صباح الخير شمال جنين ليشاركوا في معزوفة " إستحضار المسك من التراب والدخان والقاني "،فعاد أسامة مؤقتا ولم يعد أمجد، لقد ختم اللحن....... فبكى أسامة بحرقة الرجال... وقد كان بكائه لسببين،الاول من لوعته على فراق خليله، والثانية لانه أخفق في حفظ اللحن ،فبكى بكاءً مراً وأبكى من حوله من الرجال هو يقف على مرتفع يشرف على غرفة يسجى فيه جثمان أمجد.
* * * * * *
لم تدرك أخته في الرضاعة سر حضوره إليها معايدا في يوم الوقفة،قدمت له الشراب ،فإعتذر وقال لها إني صائم...
سألته قبل ان يغادر :- هل ستاتي غدا ...؟؟
قال :- قد لا أستطيع
قالت :- خذ هذا الدعاء يحفظك،وإحرص على نفسك،وأفاضت بالعبرات وهي تقرا في وجه المشع نورا حروفا الوداع
قال لها:- لا تختمي زيارتي لكم بالدموع ،غدا عيد وأنا أحب العيد.
* * * * * *
دخل إلى الدكان الذي يقابل بيتهم، طلب نصف كيلو حناء ،إستغربت جارتهم التي تبيع في الدكان، حناء ... طلب نادر وغريب لشاب صغير مثله ، وتسألت في نفسها ...هل هناك عرس في الافق....
قال لها وهي تناوله الحناء:- هل هذا النوع سريع الاثر ؟؟
قالت :- نعم .. ولم تسأل ؟؟
قال :- لا اريد ان أكبل يدي طويلا ...
* * * * * *
صلى العشاء هناك،بين أشجار الزيتون،في عنق العتمة ،وبعد أن أنهى كبّر تكبيرات العيد ، ومضى ترقص حوله سنابل القمح الخجولة وتلاطم قدميه زهرات الإقحوان وشقائق النعمان،و الهواء الرطب يلفح وجه الغض ،سار تنازعه نفسه في ان ينظر إلى الخلف،إلى المدينة التي تعج بأهل العيد الحزين ،إلى المخيم ،البيت والذكريات والاحباب، ... لم يلتفت إلا نحو تلة التراب ،تلة اللحن المنفرد والاخير...
خفقت القلوب ،وعلت مكبرات الصوت بعد منتصف الليل شاب مفقود،على كل من يملك مشعلا أو جرارا أن يسرع بالمساعدة ... وبعد ساعات من البحث في عمق مساحة الموت ... لمع وجه أسامة المخضببالدم ،فسقط عليه المحبون يشقون بنحيبهم صمت الليل ...
فعاد أسامة يحل الألغاز الثلاثة ، وداعه لام صديقه امجد ، ومعايدته لاخته بالرضاعة يوم الوقفة ،وحناء إشتراه من دكان جارتهم .......
مر أطفال من باب الدكان صباح العيد يتحدثون ،قال أحدهم :- لقد شاهدت يديه محروقتان ... تدخلت صاحبة الدكان فقالت :- لا يا بنيّ ... إنه حناء ..........حناء العيد.