أغنية غريبة

أحمد ناصر نور الدين

أغنية غريبة

أحمد ناصر نور الدين

[email protected]

رفع الحقيبة بيد واحدة رغم ثقل وزنها وضغطها في صندوق السيارة الخلفي. ثم نادى من في الداخل ليتثبت من أن كل الأغراض قد تم تنزيلها. ثم أغلق باب الصندوق ووقف هنيهة، أجال طرفه فيما حوله بنظرة تأملية وداعية. كان الغروب في اخره وقد بدأ الضوء يهن ويهن آذنا بحلول المساء. سمع صوت المؤذن قادما من مسجد الضيعة القائم على بعد من المنزل، في عمق الضيعة بين بيوت الحارة وأبنيتها المتزاحمة. وكان في الجو برودة ملحوظة ونسمة عابرة لامست وجهه وأثارت أوراق أشجار التين والرمان والتوت. التفت صوب الجل المزروع بأنواع عديدة من الأشجار وهو يفرك كفيه ببعضهما لبرهة ثم يدسهما في جيبي معطفه الأسود الطويل. بعد لحظات من الآن سيكون في الطريق الساحلي الملاصق للبحر، هو وهي في السيارة معا والطريق الساحلي والليل.. مشوار ظل يحلم به دهرا طويلا ولا يصدق الآن أي عناية في السماء حققت له هذا الحلم.

لن يكونا وحيدين في هذه الرحلة أجل، لكن أختيها وابن عمه ليسوا ممن يحسب لهم حسابا. وسيتدبر أمر ابن عمه الشاب بأي طريقة ويقنعه بالجلوس في المقعد الخلفي مع الفتاتين. القى نظرة مستاءة صوب البيت وحدثته نفسه بأن يناديهم مستحثا اياهم على الاسراع. لكنه اقتنع بأن الوقت أمامه طويل، حتى أنه كلما تأخروا أكثر كلما كانت الرحلة أكثر ايغالا في الليل ولشد ما يسحره الليل في هذا الطريق وتلك الروائح التي تنبعث من بساتين الموز والليمون والبطيخ على طول الخط لها روعتها وسحرها.

كان يدعو الله كل ليلة في بريطانيا أن يبعد عنها أعين الخطاب ويحجبها عن رؤية الباحثين عن زوجات. وبقدر ما كان يخشى أن تتزوج بقدر ما كان أمل بقائها حرة عذراء يمده بطاقة أمل ويعطيه القوة على التصبر والمواصلة في مسيرة تحصيله الجامعي. هو لم يسافر الا من اجلها هي.

على بغضه للسفر قرر أن يركب الطائرة ويقيم في بلاد بعيدة حيث لا يرى الشمس ولا الشمس تراه. وهناك حيث استقر في سكنه الجامعي كان يعاني كل مشاعره البغيضة التي كانت له قوة على قمع وكبت بعضها حين كان في بلده أما هنا فقد تكاثرت وتكالبت عليه فلم يعد يقوى على المجاهدة والتحمل أكثر مما فعل. ولعل أكثر ما كان يدمي قلبه ويفعمه حزنا وكآبة هو عجزه عن طلب يدها للزواج. حبه المتطرف لها ورغبته الجامحة في امتلاكها لم يتمكنا من إمداده بالشجاعة الكافية ليتقدم الى اهلها طالبا القرب. كان على حبه لها لا يتصور انه قادر على المجازفة بكرامته أو تعريض مشاعره للتجريح والمهانة. كان متأكدا تماما من أنها تحبه. لم تصرح له بذلك بالكلام أجل. لكنه كان يدرك ذلك من أمور كثيرة أخرى.. فكل نظراتها وكلماتها المتلعثمة في حضوره والحمرة التي كانت تضرج وجهها الجميل كانت تؤكد له بأنها تحبه وتحبه الى حدود بعيدة جدا. لكنه سمع حكاية ذلك الشاب الذي تقدم لخطبة أختها نوال وكيف رده أهلها على أعقابه خائب الرجاء. وسبب ذلك ببساطة هو أنه لا يملك بيتا باسمه ومدخوله المادي بسيط علاوة على انه من غير حملة الشهادات!

نظر محمد من موقفه خلف السيارة ابن عمه باسم وهو يعبر باب البيت، فعاد  الى وعيه بالمكان واللحظة. أقبل عليه باسم بحماسة المراهقين. سأله اذا ما كان سيسمح له بقيادة السيارة. فاجابه:"سنرى لاحقا" لم تشف اجابته غلة الشاب

فألح عليه حتى انتزع منه وعدا قاطعا.

قالت له عليا ضاحكة:

- سأتلو القرآن حتى تصل بنا الى باب العمارة!

نظر محمد الى صورتها المنعكسة في المرآة الخلفية لكنه لم يعقب. كان قد بدأ يبتعد بهم عن البيت وقد لاحت له رؤوس اشجار السرو متمايلة خلف رأس عليا المغطى بحجاب وردي. قال باسم مازحا:

- لا أتصور أن محمد سائق سيء الى هذه الدرجة.

ظلت سحر في سكوتها. كانت تجلس في المقعد الامامي المجاور له. وقد أمكنه ان يشعر بابتسامتها الخفيفة. كانت تلبس فستانا سماوي اللون بأكمام قصيرة وتحت الفستان بلوزة بيضاء تغطي كلا ذراعيها حتى المعصمين. أما حجابها فإيشارب ملون بأزرق غامق متماوج مع اللون الابيض الخفيف. داس محمد دواسة البنزين فأسرعت بهم السيارة. كان راغبا في الابتعاد عن البيت والخروج من الضيعة في اسرع ما يمكن. يريد ان يشعر بحرية تأسرها اجواء الضيعة، فالكل هناك يعرفهم.. عندما قطعوا ساحة القرية شعر بأنظار النساء والعجائز مصوبة نحوهم. حتى الصبية انشغلوا عن لهوهم                       وتطلعوا نحوهم بأعين شيطانية.. أو هكذا خيل له.

امتدت يده الى زر الراديو فأدارته. خليط مشوش من الأصوات والنغمات. أوف..! بحث بعصبية لكن لم يتمكن من التقاط صوت واحد لا يشوبه اكثر من صوتين على الاقل من اذاعات اخرى. امتدت يد زينب من بين المقعدين الاماميين نحوه بشريط مسجل.

- ما هذا؟

- ضعه في المسجلة واسمع.

دس الشريط في المسجلة. فانبعثت أغنية شبابية من الطراز الرائج. على الأقل تبقى افضل من الأصوات المشوشة التي تسوقه الى الجنون! نظر في الساعة الرقمية المثبتة في لوحة السيارة فكانت تسير في الثامنة والنصف.

الان أفرد الليل بساطه بشكل كامل. ولف الظلام وجه الارض. فكر محمد في أنه عليه أن يفتعل الحديث مع سحر طالما أنها لم تبادر الى ذلك من جهتها. فتح فاه ليتكلم، لكنه أحجم قبل أن ينطق بالكلمة وفي رأسه يدور تساءل محير الى درجة الدوار. ماذا يقول لها؟ وكيف يقدم لها نفسه بعد كل تلك السنوات من الغياب والانقطاع؟ أجل. واجب عليه أن يقدم لها نفسه من جديد أن يعرفها بشخصيته الجديدة. ألم تغيره تلك السنوات؟ لشد ما هو سحيق الفارق بينه الان وبين ما كان عليه في سنواته المنصرمة قبل أن يسافر. لكن بأي لسان عساه يخاطبها؟ ماذا يخبرها؟ هل يقول لها بأنه وقد حقق غايته من التعليم، وامتلك من الوسائل ما يبدو مطلوبا لتأمين الحياة، يسعده ويشرفه الان ان يتقدم لطلب يدها للزواج؟ رباه.. طبعا هذا مستحيل. إنه لم يفاتحها بحبه حتى! هل يقول لها اذن ببساطة انه يحبها؟ أوف... أسهل ما في الأمر أن يفتعل معها حديثا عاديا ساذجا عن الضيعة أو الطقس أو حتى عن المطربة التي كانت تصدح أغنيتها في السيارة.

كان الطريق بديعا والليل هادئا مؤتلفا مع البحر الذي سهر فيه القمر الهلالي.

في نقطة من الطريق أوقف السيارة، استأذن من ركابه ونزل. كان يوجد على جانب الطريق الأيمن كوخ كبير يشع بأضواء كثيرة. دخل محمد الكوخ وابتاع زجاجات عصير وعلبة سجائر.

قالت زينب متذمرة:

- لماذا لم تجلب معها شليمونات؟

فأجابها وهو يحس برودة الزجاجة بيده اليسرى الممسكة بالسيجارة كذلك:

- ماعادت تنهضم معك بدون شليمونة؟

خلال الرحلة الطويلة الليلية سمع الكثير من نكات ابن خالته باسم والذي كان القليل منها يحمله على الابتسام. زينب وأختها عليا كانتا في صمت متقطع.

أما سحر فقد قالت له مرة:

- في أوقات من السنة تكون رائحة الليمون معبقة هنا.

فأجابها محمد وهو لا يحيد بصره عن الاسفلت اللامتناهي في المدى أمامه:

- لقد فات موسم الليمون من زمن.

فقالت عليا ملاحظة:

- أجل، فلذلك تراه قريب الولادة من جديد.

فقال:

- يقولون بأن الطقس سيكون قاسيا هذا العام. حتى أنهم يتوقعون تساقط بعض الثلوج هنا! ومن المتوقع نتيجة لذلك أن يصاب الموسم بنكبة كبيرة.

فقالت سحر ساخرة:

- لا تلقي بالا لكلام منجمي الطقس، إنهم يستقون معلوماتهم من أرشيف العصور الفائتة.

فضحك محمد ضحكة قصيرة وقال مستغربا:

- لا تؤمنين بالأرصاد الجوية؟

- كنت أؤمن بها يوما.

- والان.

- اطلاقا.

- ماذا؟

- كفرت بها منذ زمن بعيد!

- ألهذا أنت متفائلة بخصوص الموسم؟

- ليس بالضرورة، لكنني أحب رائحة زهر الليمون. لذلك لا أستطيع التوقف عن انتظار الموسم مهما جرى.

صمت محمد برهة، سحب نفسا عميقا من سيجارته ثم أطلقه وهو يقول:

- لم تخبيريني سبب تخليك عن متابعة الأرصاد الجوية.

فقالت عليا:

- بصراحة لقد اتفقت مع نفسي منذ مدة طويلة على عدم تصديق تنبؤات الغير، ما دامت توقعاتي الشخصية باءت بالفشل.

فتساءل محمد مستغربا:

- أية توقعات؟

- كثيرة هي، لدرجة أنني لم أعد أحصيها!

- هل كانت هذه لديك عادة من العادات؟

- ما هي؟

- مسألة التنبئ بالأشياء.

ندت عن سحر تنهيدة مسموعة ولم تحر جوابا. فظن محمد أنها ضاقت بالكلام.

فقرر الصمت. وأسلم وعيه لهدير السيارة وطول الطريق الممتد في مدى نظره. كان القمر قد غاب تماما وانطفئ مشعله في مياه البحر. ران على ركاب السيارة صمت تام، صمت هدير السيارة لا يسمع سواه. أدرك محمد في لحظة ما أن الكل غرقوا في النوم. وشعر بملل شديد يطبق على صدره. فأطلق شريط الأغاني من جديد. واستمع بحزن وعجب الى أغنية لا يذكر أنه سمعها على هذا الشريط في المرات الثلاثة التي كرر نفسه فيها! وفي وسط ذلك الجو الغريب لاحت له مشارف مدينة بيروت مشعة بالأنوار، لكنه لم يفطن اليها الا عندما قرأ الإسم مرة في اللافتة الكبيرة فوق الطريق.