ثوب العيد

يحيى بشير حاج يحيى

عضو رابطة أدباء الشام

جاء العيد ، تراكض الناس لاستقباله ، و قد خفوا إلى السوق ليحملوا ما لذ وطاب وهاهي ذي مدافعه تتوالى دون توقف ، فترتج المدينة القابعة في أحضان العاصي ، وتتعالى صرخات الأطفال في فرح غامر .

أفاق حسن الصغير ، ففرك عينيه لعله يرى صورة جديدة في المنزل غير التي نام عليها ، إلا أن أمله خاب ، إذ لم يتغير فيه شيء _فصرخ بأعلى صوته لينفجر بعد ذلك في بكاء عميق : هاقد أثبتوا العيد ولم أشتر ثوبا جديدا بعد..

سكتت الأم على حزن ممض ، و أحست أن وعودها له لم تكن إلا طلقة من طلقات مدفع العيد ، لا تلبث بعد هنيهة أن ينتهي أثرها .

علا صوت حسن ، أحس به والده الذي ينام في الغرفة المجاورة ، فآثر أن يغطي رأسه ، فللسماع ثمن .. وأي ثمن ؟!

استمر الصغير المدلل يصرخ باكيا ، ألم تقولي لي إن خالك محمود لا بد أن يذكرنا في العيد ؟ لماذا لم يبعث لي ثوبا ؟ لماذا لم ترسلي له أحدا يذكره ؟؟..

أحست الأم بالحرج والحزن معا ،غير أنها تذكرت وصية أمها التي أحبتها من أعماقها وهي تقول لها: الناس _يا بنتي _ في وقت الشدة صنفان : عدو يشمت، أو صديق يحزن ، الصبر يجلب الستر ، والضجر يأتي بالفضيحة ..

وهل يكون محمود _ سامحه الله _ إلا واحدا من الاثنين ؟!

أمسك حسن بيدها ليقول في نبرات حزينة : إيه .. ماذا ستصنعين من أجلي ؟ أخوك محمود نسينا .. ودمعت عيناه الحزينتان . ضمته إلى صدرها ، قبلت جبينه العريض ، تحاول اصطناع الابتسام وهي تقول : يا شقي ! دائما كلامك أكبر منك ، قبل أيام كان محمود خالك! والآن صار أخاك محمودا .. اذهب فاغسل وجهك ، ومُرّ على دكان الحاج علي ، وخذ ثوبا على قياسك ، وقل له : ستدفع لك أمي بعد ذلك ..

تهلل وجهه الصغير ، وثب ببراءة محببة ، وفتح الباب وهو يركض .. عند ذلك تعالت أصوات التكبير من المسجد القريب .

عاد حسن ، وقد استيقظ أبوه للذهاب إلى صلاة العيد ، فلبس ثوبه الجديد ، و مضى معه ، لينضم بعد ذلك إلى مواكب الصغار في ساحة المدينة وقد غصت أرجوحة أبي حمادي بهم ، وأما حسن الذي نفدت قروشه بسرعة ،فقد آثره الرجل العجوز على غيره ليدفع معه الأرجوحة . على أن يركب فيها قبل انتهاء الشوط .

مضت أيام العيد ، وثوب حسن يحمل من غبار ساحة الألعاب، ومباهج العيد ما يحمل ، وعادت الهموم تقض مضجع الأم وهي تتذكر ثمن الثوب واقتراب الموعد ، ولسان الحاج علي الذي لا يرحم ، رغم طيبة قلبه وابتسامه في وجه الزبائن.. فوقفت تستجدي الصغير أن يخلع الثوب ، لأنها غير قادرة على دفع ثمنه ، وقد وعدته بشراء ثوب أجمل منه .. لم يستسلم حسن لرجائها ، غير أن إلحاحها الشديد جعله يخلع الثوب على مضض .. ويمضي معها إلى دكان الحاج علي ..

كان الدكان ما يزال يغصُّ بالزبائن ، فوقفت في أقصى الجانب .. خف العدد .. التفت إليها الحاج علي من وراء نظارته التاريخية ..

_نعم .. خير يا أم حسن ؟ .

تلعثمت وقد جف ريقها : والله و .. وثوب حسن

_ ما به ! إنه ممن أحسن قماش !!

_ لـ..لكن.. نريد أن نرجعه

_ همهم الحاج علي وهو يمسك بالثوب ، ويقلبه . وكأنه فهم المراد : خذي يا أم حسن الثوب ، هو هدية مني للصغير .. نحن أهل على كل حال ..

انفتلت وهي لا تكاد ترى طريقها: سامحك الله يا محمود! أمسك الصغير بالثوب .. التفت الحاج علي إلى شريكه : نجعله من الزكاة يا أبا الخير .. هز الشريك رأسه .

ترقرقت عينا أم حسن بالدموع ، وهي تمضي عائدة إلى البيت .. قدما حسن تنهبان الطريق من خلفها ، حاملا الثوب ، وقد عاد العيد من جديد.