أدلجة

حسين راتب أبو نبعة

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

كان لطيف المعشر ، صاحب فكاهة و موسوعي الثقافة ، يشدك للانتباه لحديثه من خلال قدرته على الحبك و الصياغة وتفسير الأحداث الجارية، غير أن خصلة ما  شوشت على شعبيته وأصبحت تقطع جسور التواصل رغم انه كريم الطباع.اذ كلما ازدادت وتيرة النقاش بما يخالف أفكاره المعلبة حتى يبدأ بترديد عبارات و مصطلحات عفا عليها الزمن، فقد كان يتمسك بتكرار أوصاف و تصنيفات نخرها السوس...باختصار كان صاحبنا ضحية الايديولوجيا و العبارات الممجوجة المستهلكة. أشار احد أصدقائه إلى أننا نعيش عالماً متغيراً شئنا أم أبينا و أن عجلة هذا العالم تجاوزت مرحلة التمترس وراء الشعارات التي لم تصمد و ذابت كما الشمع أمام مصدر حراري فما كان من القابعين في ظلام المصطلح إلا أن يولوا الأدبار !

انتفض صاحبنا كمن أصابته قشعريرة مفاجئة و عاد يقذف الحاضرين بوابل من قاموسه الأيديولوجي العتيق و تداخلت فيما بينها حتى أنني لا أذكر سوى مفردتين هما بروليتلريا و بورجوازية! 

2- الضرير و المأتم

في اليوم الثالث لوفاة الفقيد جرت العادة أن يقدم طعام" الوضيمة"ترحماً على الفقيد و ذلك     بعد صلاة العشاء مباشرة، و تم الاتصال بعدد من الأقارب و الأصدقاء للحضور و الترحم على الفقيد و قراءة آيات من الذكر الكريم . كان الجو عادياً، وبدأ الحاضرون بالتوافد واحداً تلو الآخر . بيت الفقيد في الطابق الرابع في عمارة قديمة لا مصعد فيها، و ما أن انتهوا من  صعود الدرجات الستين حتى ألقى الكبار منهم بأجسادهم على الكراسي المتناثرة على سطح البناية. جلسوا صامتين و كانت ترتسم على محيا بعضهم سمات الحزن و إمارات الذهول فقد كان الفقيد بالأمس بينهم بكامل صحته، و كان هناك آخرون يتبادلون أطراف أحاديث جانبية.في احد الزوايا كسر الصمت رجل ضرير في العقد السابع بقراءة آيات من سورة يسن ، كان جهوري الصوت يراعي أحكام التجويد مما أضفى مسحة من الخشوع قطعت حبل الأحاديث الجانبية.

فجأة تهب موجة باردة فتعصف الوجوه التي عضها الجوع و آلمها الترقب ، فقد مر وقت طويل على صلاة العشاء و لم يحضر الطعام بعد حتى أن بعض الحاضرين هموا بالمغادرة لولا إصرار أبناء الفقيد عليهم بالبقاء مؤكدين لهم أنهم اتصلوا للتو بالمطعم و أفادوا  أنهم في الطريق  . درجات الحرارة تستمر في الانخفاض و شيخنا الضرير يرتجف صوته، يتوقف قليلاً عن التلاوة يحدق في السماء ثم يحرك رأسه يمنة ويسرة يتلمس أخباراً عن الطعام، و يحرك أرنبة أنفه لعله يشتم شيئاً ينبئ عن قرب الانفراج.

غيمة شاردة تسقط ما لديها فوق رؤوس المنتظرين ثم تنقشع سريعاً، و مع سقوط آخر القطرات كان أحد الفتيان يتقدم و معه صينية الطعام الأولى.

عند شيخنا ، يا فتى ،أشار أحد الجالسين.انفرجت أسارير الشيخ و خف ارتعاشه مع سخونة المنسف...ظل يأكل و يأكل ، شبع الجميع و الشيخ يحني رأسه الصغير و يأتي على بقايا المائدة الدسمة.بعد دقائق كانت صافرة سيارة الإسعاف ترسل زعيقاً لا يبعث على الاطمئنان. قال بعض من شاهد الواقعة  انه شاهد شيخاً ممددا تحت أجهزة التنفس الصناعي وأنابيب التغذية بعد ان ارتفع ضغطه نتيجة الإفراط في الطعام .