الحكواتي
حسين راتب أبو نبعة
جامعة الملك عبد العزيز
كلية المعلمين بمحافظة جدة
· مدرس لغة بكلية التربية – جامعة الملك عبدالعزيز
كان الأب الحكواتي غارقاً في سرد بطولاته كلما لاحت فرصة يلتقي بها أقرانه حيث كان مفرطاً في اضفاء هالة من الترقب و الغموض و هو يسرد وقائع حكاياته المتشابكة. فجأة ، و دون سابق انذار، جاء صوت ابنه اليافع كاعصار هز كيانه
- على رسلك يا أبتي، فهذه القصة سمعتها منك للمرة السادسة بالتمام و الكمال ،غير أنك في كل مرة تغير في شخصياتها و نتائجها!. حمد الأب الله لان عدد الحاضرين كان قليلاً. انفجر الأب في وجه ابنه كقنبلة موقوته.
- " ما الذي أغاظك في حكايتي ؟ ألا تعلم بأنه في الإعادة إفادة و أضاف " بامكانك الانصراف و الاحتفاظ بأدبك ! " قال الأب بلهجة تحمل في ثناياها التوبيخ.
انفضت الجلسة مبكراً اليوم ربما بسبب تعكر مزاج الحكواتي بملاحظات ولده.
في الصباح الباكر انطلق الصيادون المحبطون في قوارب محلية الصنع....المدينة تسبح في فضاء قاتم و ظروف حياتية بائسة و مواسم الصيد شحيحة بسبب محدودية الأماكن المتاحة للصيد. مد الصيادون شباكهم و طال انتظارهم سويعات لم تلتقط فيها شباكهم سوى أسماك صغيرة بالكاد تكفي حاجتهم المحلية، يضعونها في صناديق بلاستيكية خاصة.
قراصنة ( الفايكينغ ) الجدد قادمون و لكن هذه المرة على متن قوارب حديثة، يطلقون عيارات نارية بلا تحذيرات مسبقة...تنزف دماء الصيادين ساخنة فتختلط مع أسماكهم الصغيرة ، تسمع حشرجاتهم و استغاثاتهم ، القصف يشتد من سفن ترى في أفق المدينة، تلتهم الحمم أطراف المدينة الساحلية، تتداعى بعض المنازل، و على مقربة منها كانت المراكب الصغيرة تهرع مرعوبة بصياديها نحو حضن الشاطئ...بعض الصيادين الفزعين يقفزون عن ظهر مراكبهم هرباً من انتقام الغربان. يتعمد البحر مع قطرات الدم النازفة.
في الطرف الآخر من المدينة كان الحكواتي ما يزال يكتب شيئاً ما على ورقة صفراء باهتة. يقف قبالته ابنه الوحيد و يخرج عن أدبه من جديد.
- ما بك يا ولد ؟ سأل الحكواتي ولده
يتقدم الفتى .مرتجفاً متردداً...يحاول أن يتخذ وضعية تساعده في صد أي صفعة مفاجئة
- " أنت يا أبتي تكتب بلا مداد و صرير قلمك يجتر حكايات عالمك الافتراضي"
- دعك من هذه الترهات يا ولدي...حكاياتي انعكاس لصولات أجدادك...سيولد إنسان من جديد بلا أدران و يخرج جيل لا يعرف الوهن !
- كيف ؟ متى ؟ تساءل الفتى و هو في حالة من الضياع.
القصف يتجدد و ألسنة اللهب يشتد أوارها و سحب الدخان تحجب الضياء و تبتلع المكان. الموت يتسلل من شق الباب و الشمس يبتلعها البحر بهدوء..
الفتى يحس ببرودة تسري في عروقه لم يعهدها من قبل...يرتجف من جديد.
-- أبتي ! افتح الباب الموصد...أكاد أختنق ./span>
الحكواتي ما زال منكباً على تدوين نبوءاته و تسطير حكاياته عن البطل الهمام القادم!
قذيفة حاقدة تصيب الباب ، تفتح كوًة كبيرة..تتطاير أوراق صفراء على منضدة في اللحظة التي كان الحكواتي وولده يهمان بالخروج من الباب الخلفي .