كان زمان

ساهر هادي

أهدي هذه القصة التي وقعت أحداثها أواخر العام 1957 الى السيد ساتر فيلد منسق شوؤن العراق في وزارة الخارجية الامريكيه بمناسبة اعترافة المتأخر بحجم الفساد في العراق ليلاحظ الفرق بين وجودهم ووجود بريطانيا حليفتهم في العراق ويعلم أن نوري السعيد كان الحاكم الفعلي للعراق خلال 30 عاما وأتضح بعد وفاته انه لا يملك سوى 60 دينارا فقط وهكذا كان حال البطل المرحوم عبد الكريم قاسم فقد قتل وهو لا يملك دار أو سيارة أو أي مبلغ زهيد من المال:-

أبو أحمد رجل يسكن أحدى المحافظات الجنوبية ضاقت به سبل العيش ففي الوقت الذي كانت تباع فيه اكبر سمكه ومن  أجود الأنواع بسعر 150 فلسا وسعر كيلو اللحم ب  650 فلسا  والرقي الذي كان يقال عنه غذاء الفقير يباع بالا وقيه وهي أربعة كيلو غرامات بسعر 20 فلسا وقس على ذلك سعر الخضروات والفواكه الأخرى .  

وفي مجلس أصدقاء عرض عليهم فكرة الذهاب إلى نوري السعيد ويومها كان رئيسا لوزراء العراق ليعرض عليه ما آلت إليه أمور عائلته  عسى أن يجد منه العون فأيد أصدقاءه المقترح وأشاروا عليه بالذهاب إليه وهو في منزله بعد انتهاء الدوام الرسمي ليكون متفرغا له  وأخذ أبو احمد بالنصيحة واستدان من الميسورين منهم مبلغا من المال وشد الرحال الى بغداد.... التي وصلها في صبيحة اليوم الثاني بعد أن قضى الليل وهو شبه نائم  تلاعب مخيلته أحلاما ورديه للقاء المنتظر لا يفسدها سوى الحركات العنيفة التي تحدثها العجلات عند سيرها على فتحات التمدد لسكه القطار وخاصة في بعض المنعطفات .. وبعد أن تناول فطوره قرب المحطة وكان عبارة عن صحن صغير من الشوربه سئل  البائع  عن الطريق إلى بيت نوري باشا .... وبعد أن نظر إليه البائع بدهشة واستغراب أشار الى الشارع المؤدي للاذا عه وقال له هذا اقرب طريق اسلكه واسأل عن الدار عند وصولك  للاذا عه   فهو قريب منها....

وصل أبو احمد  الى الدار وكانت عبارة عن دار بسيطة لا تقارن بدور الميسورين من التجار والعوائل ألمعروفه في ذلك الوقت ... وأخذ ينتظر انتهاء الدوام الرسمي بفارغ الصبر وبرهة يقول لنفسه ما الذي أتى بي الى هنا بئسها من فكره وتارة يقول أن أسوء الاحتمالات  هي أن يطردني المهم (ما كو حبس) وبعد انتهاء الدوام  جاء الباشا في سيارته لا يرافقه سوى  حارس شخصي  وسائق السيارة وعند وصول  السيارة الى باب الدار شاهد الباشا أبو احمد وهو جالس على الرصيف وسئل الحراس عنه واخبروه انه أتى من الجنوب وهو جالس من الصباح الباكر فأنب الحراس لعدم إدخاله الى غرفة الحرس وتقديم الطعام والشراب له فناداه  وقال له: ( أهلا بابن الجنوب ادخل مع الحراس وتناول طعامك معهم وسأقابلك بعد الغداء)... وسرت الطمأنينة في نفس أبو احمد وكأنه لم يصدق ما سمعه ....وبعد انتهاء الطعام وشرب الشاي مع الحراس الذي تخلله شرح الظروف التي أدت به لمقابلة الباشا  أطل الباشا يرتدي الروب وبيده السيكاره وقال له: ( ها ابن الجنوب من أي لواء أنت)... فأخبره أبو احمد باسم لوائه فضحك  الباشا وقال له :( أشعندك جاي..... لا تحجي بالحسجه طكهه عدل)....  فأخبره عن سبب قدومه.. فقال له:( أكو واحد يجي يوم 12بالشهر ليش أشبقه من الراتب ) ودخل الى داخل الدار وعاد وبيده مبلغ عشرة دنانير سلمها الى أبو احمد مع  كارت توصية  يقدمه الى دائرة الأشغال في مدينته عسى أن يجدوا له فرصة تعيين  وقال له :  (شوف  أبو احمد إذا ما عينوك خلال شهرين ارجع بس لا ترجع ألا راس الشهر لأنك خربطت أموري المالية ألان)... ورجع ابو احمد وهو فرحان بالمبلغ وبالكارت وراجع الدائرة المعنية التي طلبت منه الانتظار لحين توفر فرصة العمل ,....خرج أبو احمد وهو يكلم نفسه معقولة هذا نوري باشا  الحاكم الفعلي للعراق لا ينفذون أوامره... ولم يعلم أن في زمانه من الصعب على أي مسؤول في الدولة  صرف دينار واحد خارج التخصيصات.  وانقضت المدة ولم يعين أبو احمد وتذكر كلام الباشا  فشد الرحال عائداً الى  بغداد  وهو مطمئنا هذه المرة لأنه لم يجد في الباشا الصورة المرسومة عنه.... وبعد وصوله رحب به الحرس واخذوا يتبادلون النكت عن لقاءه السابق  مع الباشا  وحينما عاد الباشا من الدوام وشاهده قال له وهو يضحك:(ها  ولك  اندليت الدرب  اشلون قابل اطلع بيك أعاله ليش ما عينوك... شوف  ابو احمد خابصين الدنيه علي وأني مهندس ما خوفته وعينك وخلصني منك ) ومثل المرة السابقة قابلة بعد الغداء  وسلمه مبلغا قدره 15 دينار ومعها كارت الى متصرف اللواء  وقال له وهو ضاحكا :(سلم الكارت الى المتصرف (ما يعادل منصب محافظ حاليا)واطلب منه أن يتصل بي والتفت الى الحراس وقال لهم (هذا أتعلم علي مره ثانيه إذا جاء خابروا الشرطة عليه )....  وسلم على أبو احمد ودخل الدار فعاد أبو احمد الى مدينته وصباح اليوم التالي ذهب لمقابلة المتصرف وكان يوم ذاك يقف ستة من أفراد الشرطة فقط  في الباب الرئيسي للمتصرفيه (المحافظة)  ليؤدوا مراسيم التحية الرسمية للمتصرف عند دخوله وخروجه منها خلال الدوام الرسمي ويجلس أمام باب المتصرف فراش واحد  ولاتوجد مكاتب سكرتاريته ولا مئات من الحرس كما هو الان ..... فسلم أبو احمد على الفراش وأعطاه الكارت فدخل به الى المتصرف  وبعد برهة خرج وطلب منه الدخول فدخل وحيا المتصرف وكان يدعى عبد الكافي فقص أبو احمد قصته مع الباشا واخبره بضرورة الاتصال بالباشا تليفونيا فأتصل المتصرف بوزير الداخليه وحكى له القصة وأستأذنه للاتصال بالسيد رئيس الوزراء حسب طلبه فأذن له الوزير وطلب المتصرف رئيس الوزراء الذي اخذ يضحك بقوه عندما علم أن في الطرف الأخر عبد الكافي وقال له: (ها اجاك هذا اللعين  ابد ما يترك سالفته وقال له شوف عبد الكافي أما تعينه ونخلص منه نحن الاثنين وأما تخصص له راتب تدفعه من راتبك لأنه خلخل ميزانيتي  فضحك عبد الكافي وقال له صار بيك واني الممنون ) فاتصل المتصرف برئيس البلدية وطلب منه الحضور وبعد حضوره طلب منه أن يعين أبو احمد حتى لو بصفة كناس شوارع   فانتفض أبو احمد وقال للمتصرف بيك معقولة واسطتي رئيس الوزراء وأتعين كناس فاخبره وهو ضاحكا لا ابني تخصيص ماكو حاليا  انت تتعين بهذه الصفه مؤقتا ولكنك في الحقيقة تشرف على إعمال الكناسين لحين ورود التخصيصات ونجد لك عملا أخر وفرح أبو احمد وذهب مع رئيس البلدية الذي أصدر أمر تعينه ومباشرته للعمل وعاد بعدها فرحا الى اهله وسلم لزوجته أمر التعيين الذي طافت به على الجيران اللذين استبشروا خيرا وخاصة أولئك اللذين يستدين منهم أبو احمد وما هي ألا سنه وصدر أمر تعيين أبو احمد بعمل أفضل وراتب أعلى وبعد شهر من التعيين حدثت ثورة الرابع عشر من تموز وسمع أبو احمد أن نوري السعيد ُيسحل في الشوارع لكونه عميلا للاستعمار البريطاني في العراق فحزن حزنا شديدا عليه ألا انه لم يفصح عن هذا الحزن خوفا من العواقب وبعد مرور مده من الزمن تناقلت الأنباء أن نوري السعيد مات وهو لا يملك سوى 60دينار فقط وهنا صاح بأعلى صوته يا ناس اكو عميل لا يملك دارا أو سيارة ويملك ستون دينارا فقط .....ظل أبو احمد يترحم على روح نوري السعيد عرفانا منه بالجميل الذي صنعه حتى توفاه الله.